قراءة في فلسفة التاريخ والإنسان والمدينة

  • 6/7/2019
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كانت مظاهر القرية تغيرت عن السابق ومالت إلى التحديث فإن من الإنصاف أن تطور تلك المعلومات القديمة سواء بالكتابة عن القرية أو بدعوة الكتاب الأجانب لرؤية الصورة الحديثة للقرية.. عندما غزا السوفييت مدينة براغ العام 1968م كتب باروسلاف سيفرت الشاعر التشيكي الفائز بجائزة نوبل للآداب العام 1984م قصيدة المدينة الباكية - والذي يصف فيها مأساة المدينة - وقد كتبها بمهارة عالية "هذا الشاعر الممتلئ شعره بالإنعاش والحساسية والإبداع الفني يهبنا صورة حرة لروح الإنسانية التي تأبى الانكسار".. كما كتب أليوت في وصف لندن مقاطع يعتبرها النقاد من أروع شعره، وفي الفن الروائي كتب الروائي الأميركي همنجقوي تصويرًا صادقًا لمدينة هافانا، وفي City of Joy قدم دومنيك لابيير وصفًا لمدينة كركرا الهندية.. ولم يتوقف وصف المدن على الرواية والشعر وإنما دخلت الكتابات الفنية على المستويين المكاني والزماني إلى جانب الأصناف الأدبية. لقد عرف زمننا محاولات عديدة لتصوير المدن والقرى إلا أنها لم تكتب بطريقة معاصرة طريقة تمزج التاريخ بالإنسان بالمدينة وإنما كانت كتابات تضج بالخطابية، هذا كان على مستوى الشعر والرواية.. أما على مستوى الإصدارات والمؤلفات التي تناولت القرية فهي عبارة عن كتيبات مبسطة تتناول تاريخ القرية القريب وبعض المعالم الأثرية وشيئًا من الحياة الاجتماعية والسكانية والعادات والأعراف الاجتماعية، وبرغم أن تلك الكتيبات مفيدة إلا أنها لا تعد مصدرًا رئيسًا للباحث ولذلك تظل المدينة والقرية أمام الدارسين قليلة المعلومات. في العام 1993م كتبت دراسة مقارنة ما بين القرى السعودية والقرى الصينية، وتعرضت في تلك الدراسة إلى أوجه الشبه والاختلاف ما بين القرية السعودية والقرية الصينية، وهي ضمن الأبحاث التي تتصل بموضوع دراساتي العليا، ولقد كشفت لي تلك الدراسة ضآلة المعلومات المتوفرة عن القرية أو المدينة باللغة العربية، في حين أنني فوجئت بغزارة مصادر المعلومات التي كتبت باللغة الإنجليزية. ففي المراجع الإنجليزية الأجنبية تتنوع مصادر المعلومات عن المدينة والقرية بين ثلاثة أنواع: الأول: الكتيبات الإعلامية وهي عبارة عن كتيبات رافقت المعارض والمهرجانات الدولية وقد كتبت بطريقة انتقائية وراعت موضوعاتها الأسئلة المتوقعة من القارئ الغربي، وقد تناولت تلك الكتيبات الجانب الوصفي لحياة القرية أو المدينة. الثاني: الكتب التي ظهرت على أيدي الرحالة الأجانب وبرغم أن تلك الكتب ركزت على حركة التوطين إلا أنها تناولت القرى والهجر تناولًا وصفيًا كجزء من ثقافة الصحراء ولا يتعدى وصفهم أنها موارد ماء وبيوت طينية غير منتظمة ومسجد وبعض من أشجار النخيل ومعلم يدرس القرآن الكريم وبازار. الثالث: كتب المستشرقين التي تناولت الإسلام والعرب والصحراء والبترول وقد جاءت على ذكر القرية وخصوصًا التقاليد والعادات والنظام الاجتماعي. ولذلك فصورة ونمط القرية لم يتغيرا في ذهنية الرحالة الأجانب؛ بيوت طينية مبعثرة حول آبار المياه برغم أن التغيير الحقيقي لنمو القرية بدأ مع أوائل العام 1973م حين بدأت الدولة تستفيد من عائدات البترول في تطوير المدن والقرى وحين أدخلت تطوير المدن والقرى في منظومة خطط التنمية. وإذا كانت مظاهر القرية تغيرت عن السابق ومالت إلى التحديث فإن من الإنصاف أن تطور تلك المعلومات القديمة سواء بالكتابة عن القرية أو بدعوة الكتاب الأجانب لرؤية الصورة الحديثة للقرية؟ وإن كانت بانت معالم خط رفيع وقد أخذ شكله النهائي في الكتابات التوثيقية التي صدرت عن مؤسسة التراث وقدمت صورة للمدينة الحديثة والتي أولت الزمان والمكان قدرًا أكبر من الاهتمام، وقد كان جهدًا عظيمًا في وضع هذا الاتجاه على بداية الطريق الطويل فالتوازن النوعي بين الزمان والمكان والإنسان استطاع أن يحقق انتشارًا واسعًا، وبدأ يصبح تطور الكتابات منسجمًا مع تطور المدن وإن كان لا يزال الطابع النمطي القديم يرى الماضي أهم من الحاضر.. ولذلك ظهرت كتابات توثيقية تمزج الماضي بالحاضر تناولت الرياض ونجران والباحة وعسير والقريات تناولًا فنيًا. قبل سنوات زرت معرضًا بيئيًا في مدينة جدة وعلى الرغم من سعة المعرض وتنوع المشاركين إلا أن قدمي ساقتني إلى ركن في أقصى المعرض اطلعت فيه على نسخة من كتاب نجران والذي تناول معالم نجران الأثرية الأخدود والنقوش والكتابات الحميرية والقطع الفخارية ومعصرة السمسم وقصر العان أو سعدات المطل على وادي نجران وجبل رعوم والذرواء والمندفن وقلعة القشلة وآبار خطمة وغابة نهوقة وغابة سقام والحاجب الحمر. وفي مناسبة أخرى اطلعت على كتاب آخر (القريات من الألف إلى الياء) كتاب يقربك من القريات بل تحس حين تفرغ من قراءته أنك عرفت القريات معرفة حقيقية، عرفت حضارة وادي السرحان ومملكة الأنباط والهجرات وطرق التجارة القديمة والقوافل التي عبرت الوادي والكتابات الآشورية القديمة التي نقشت على الصخور والآثار التي تعود إلى ما يعرف بالدهور الحجرية المطيرة. فالكتاب يتحدث عن تلك الأمم والشعوب التي مرت أو استوطنت وادي السرحان ولا أدري ما إذا كانت مراكز البحث العلمي اعتنت بتاريخ الوادي الذي يمتد 8000 سنة قبل الميلاد ونشرت الدراسات التاريخية عنه، هذا إذا عرفنا أن جامعة أكسفورد عنيت عناية خاصة بالظواهر الأركيلوجية والجيولوجية بوادي السرحان ولم تكن مجرد عناية بل إنها أرسلت بعثة لدراسة تلك الظواهر. ففي كلا الكتابين نجران والقريات وقفتا على نقلة نوعية في تاريخ المدن والقرى.. ولذلك علينا أن نعيد النظر في العلاقة ما بين التاريخ والإنسان والمكان.

مشاركة :