د. إدريس لكريني تشير بعض الدراسات إلى أن مصطلح «الفوضى الخلّاقة» ظهر منذ بدايات القرن العشرين وبالضبط عام 1902 على يد المؤرخ الأمريكي «تاير ماهان»، قبل أن يعود تداوله من جديد داخل الأوساط الأكاديمية على يد الباحث الأمريكي «مايكل ليدين» ضمن ما سمّاه ب«الفوضى البنّاءة» أو «التدمير البنّاء» في أعقاب أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر/أيلول للعام 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية. وعلى المستوى السياسي، استخدم المصطلح في ثمانينات القرن الماضي، على لسان رئيسة الوزراء البريطانية السابقة «مارغريت تاتشر»؛ لوصف الحرب العراقية - الإيرانية، واحتمالات امتداداتها الإقليمية لدول أخرى، بما يفرز قدراً من الفوضى الممهّدة للاستقرار، ثم استخدمه الرئيس الأمريكي السابق «رونالد ريجان» بنفس المعنى أيضاً، كما ورد على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «غونداليزا رايس» ضمن تعليق لها على الغزو الأمريكي للعراق لعام 2005. تحيل الفوضى الخلّاقة إجمالاً إلى تلك الفوضى المتحكّم فيها أو الموجهة على سبيل تحقيق مجموعة من الأهداف والمصالح الاستراتيجية، وتتم هذه الفوضى عبر ثلاث مراحل متتالية، تبدأ بزعزعة الحالة المستهدفة وغير المطلوبة، وإثارة قدر من الفوضى المزعجة بصددها، ثم السعي لاستثمار هذه الفوضى وتوجيهها في السياق المطلوب قبل التدخل لاحتوائها بسبل مربحة. برز المفهوم بقوة في السنوات الأخيرة، مع التطورات التي شابت السياسة الخارجية للولايات المتحدة وميل صانعي القرار في هذا البلد وبخاصة المحافظين منهم، إلى تجاوز كلفة الحروب والتدخلات العسكرية التي أفرزت استياء ورفضاً في أوساط المجتمع الأمريكي واعتماد سبل وآليات تدخلية أكثر مرونة ونجاعة وأقل كُلفة. ارتبط الحديث عن هذه المقولة بالتحوّلات المتسارعة التي أدخلت المنطقة العربية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي في متاهات من الارتباك والتراجع على مختلف الواجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية.. ثمة قناعة كبيرة لدى الكثير من الباحثين والمفكرين بأن القوة «الخشنة» في علاقتها بالمقومات العسكرية والزجرية الأخرى تبقى مكلفة وغير ناجعة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدول؛ وهو ما يطرح أهمية استحضار مداخل أخرى أكثر مردودية، كما هو الشأن بالنسبة للفوضى الخلّاقة والقوة «الناعمة»؛ التي تقوم على الإغراء والإقناع بدل الإكراه والزجر، واستثمار مختلف القنوات الثقافية والفنية والروحية والعلمية والمساعدات التقنية والإنسانية في التأثير على صناعة الرأي والقرارات الدولية. يقترب مفهوم «الفوضى الخلّاقة» كثيراً من مفهوم الإدارة بالأزمات، التي تتّصل بخدمة أهداف ضيقة أو التمويه على الأزمات الحقيقية عبر سبل ملتوية ولا أخلاقية، قد تصل إلى حدّ تفتيت الدول، وإطلاق الشائعات وإثارة النّعرات العرقية والطائفية، والتحريض على العنف وإرباك التحالفات والمواثيق والمعاهدات الدولية، وتشجيع الإرهاب والتطرف عبر سبل مختلفة.وكما هو الأمر بالنسبة لتقنية إدارة الأزمات التي تتطلب وجود مقومات بشرية وتقنية واقتصادية وعسكرية تدعم التحكم في مسار المشكلات وتحول دون تمدّدها؛ فإن الإدارة بالأزمة أو صناعة المؤامرات والفوضى أصبحت تستند بدورها إلى مقومات عدّة تدعمها مخرجات مراكز الأبحاث الاستراتيجية، وكذا الآلة الإعلامية من حيث توجيه وتعبئة الرأي العام..وتشير الكثير من التدخلات التي باشرتها الولايات المتحدة ما بعد الحرب الباردة؛ بذرائع مختلفة تراوحت بين «دعم الديمقراطية» و«فرض احترام حقوق الإنسان» أو «مكافحة الإرهاب» و«الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل».. إلى أن هذه الدولة توظف هذه الإمكانية لتصفية حساباتها مع خصومها، وتحقيق مصالحها الضيّقة.كما تؤكد الممارسة أن «إسرائيل» استطاعت بمكرها في كثير من المناسبات أن تحوّل اهتمام الرأي العام الدولي بأزمات حقيقية متصلة بتهويد القدس ومحو معالمها الإسلامية أو ببناء المستوطنات وإقامة الجدران العازلة أو قصف الأراضي المحتلة واعتقال الفلسطينيين وإبعادهم عن أراضيهم.. نحو أزمات مصطنعة ومبتذلة ولا قيمة لها من المنظور الاستراتيجي. تعجّ المنطقة العربية بكثير من الأزمات والصراعات التي وإن كانت تعبر في مجملها عن مشاكل داخلية، وعن عدم القدرة على تدبير الخلافات السياسية والاجتماعية، فقد اتخذت طابعاً متنامياً من الخطورة بفعل تدخل وتحريض بعض القوى الإقليمية والدولية عبر إذكاء الفتن وإثارة الفوضى؛ بغية تحقيق أهداف خاصة، الأمر الذي أدخل المنطقة برمتها في متاهات من الصراع والعنف، وأخرج الكثير من دولها من دائرة الحسابات الاستراتيجية الإقليمية، وأثّر بالسلب في النظام الإقليمي العربي برمته.تراجعت حدّة التنسيق العربي في خضم هذه التحولات، وتفاقمت بذلك الخلافات والنزاعات البينية، وتباينت المواقف العربية بصدد عدد من القضايا والأزمات، كما تضاعفت حدّة التهافت على المنطقة عبر قوى دولية وإقليمية كبرى، فيما استغلت سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» هذه الأوضاع المرتبكة لتتنصّل من الاتفاقات المبرمة مع الفلسطينيين، ولتمارس أقسى الجرائم في حقهم، من قتل واعتقال وتوسيع نطاق المستوطنات، فيما لم يتردد الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» نفسه في استغلال هذه الأوضاع، بإصدار قراره الخطر القاضي بتحويل العاصمة «الإسرائيلية» من «تل أبيب» إلى القدس.. لا يخلو توظيف أساليب الفوضى الخلّاقة أو تقنية الإدارة بالأزمات على الصعيد العالمي من استهتار بالمواثيق والقوانين الدولية ومن خطورة وكلفة على عدة مستويات، فهي تقوم في مجملها على الشائعة واختلاق أزمات وهمية أو فوضى، وتوفير المناخ اللازم لتصاعدها وتمدّدها وللقبول بها كواقع؛ لأجل الهيمنة والابتزاز وتحقيق الغايات والمكاسب الخاصة بسبل ملتوية ومنحرفة. drisslagrini@yahoo.fr
مشاركة :