لقصة النبي القرآني (صالح) تفرّدها، ولها خصوصيتها التي جعلت منها محط بحث العديد من المفسّرين والكتاب، القدماء والمحدثين، فقد اختتمت بحدث عظيم، كما أن محورها (ناقة) استشهد القرآن الكريم بما حدث لها في العديد من آياته. هذه الناقة التي تتخذ دور البطولة في هذه القصة، تشير إلى قوم قطنو جغرافيا محددة على الخريطة، فأين مكان هذه الجغرافيا، ثم كيف أصبحت تلك الناقة أساسًا ليخلد ذكر (ثمود)، وما هي الاستنتاجات التي يمكن أن نستنتجها من هذا الحدث التاريخي الذي حرص القرآن على تخليده؟ إن اسئلة كثيرة تتولد من قصة النبي صالح، ومحاولة الإجابة عنها، هو ما قام به الباحث البحريني، الدكتور أحمد العبيدلي، في كتابه الصادر حديثًا: «العثور على ناقة النبي صالح».أربعة عقود من الاشتغال بالبحثشغلت قصة النبي صالح، الباحث العبيدلي، منذ أربعة عقود، حينما كان يعيش في (الغيضة) عاصمة المحافظة السادسة كما عرفت في القسم الجنوبي من يمن ما بعد الاستقلال، ليبدأ عملية البحث التي استمرت طوال هذه الفترة، منتهيا بنتاجها في كتاب من (543) صفحة، أراد فيه أن يتخلى القارئ عن أمور وينفتح على أخرى، ليتسنى له التعاطي مع الاستنتاجات بشكل موضوعي.وقد قسّم العبيدلي كتابه إلى ستة فصول، تناول في الفصل الأول استنادا للمصادر والمراجع والدراسات المعاصرة، والتي اشتملت على المصادر غير العربية، والعربية، والآثار والنقوش، والجغرافيا، ودراسات الرحالة. ثم انتقل في الفصل الثاني لقوم (ثمود)، ورحلاتهم إلى الشمال، متعمقا في جغرافيتهم، ونمط سكنهم، وتاريخهم، إلى جانب الأمور الايكولوجية المتعلقة بمكانهم.أما الفصل الثالث، فخصه العبيدلي لمنطقة (المهرة)، المكان والقبيلة، لينحو بعد ذلك نحو «الإبل في الجزيرة العربية»، بدءًا من مرحلة تدجينها، وصولاً لموقع خلق الناقة، كما يستنتج. وفي الفصل الخامس، يتناول «النبي صالح والناقة والعصاة والعقاب»، حيث يدرس في هذا الفصل زمنية القصة، ورجال النبي، والعقوبات، والناجين. وينتهي في الفصل السادس، بمقاربة نقدية بين «ثمود والأنباط».الحيوان المقدسيؤكد العبيدلي في مستهل كتابها على أن «الناقة في قصة صالح بالإساس منتجة للغذاء من حليب ولحم، لا تثقل الأحمال ظهرها في غالب الأحيان، ولا تجد السير في رمال الصحاري ولا تناجز الأعداء»، إلى جانب أن «مدائن صالح الحالية ليست بمدائن صالح النبي، فهي ليست بمستقر لأحداث القصة، ولم تكن مسرحا لسرد محطات الدراما النبوية، وليس صالح المنسوب لهذه المدائن بصالح النبي»، كما يلفت إلى أن «العرب البائدة لم تبد».وقد لاحظ العبيدلي أثناء إقامته بين قبائل (المهرة) و(ظفار) في سبعينيات القرن الماضى وجود (إبل) مقدسة تجوب الصحاري الواسعة والقاسية، موفرة الحليب للضال والمنقط، وكان ذلك مدعاة للبحث عن تفاصيل جديدة في قصة النبي صالح والناقة التي أراد لها النبي التقديس للبقاء والدوام، واختارت لها (ثمود) العقر والقتل. ففي تلك المناطق تشيع أقوال تفيد بأن سكان (المهرة الكبرى)، الممتدة بين (حضرموت) و(عمان)، هم من تبقى قوم (عاد الثانية)، وبين أوساطهم جرت قصة النبي صالح.لفت ذلك القول انتباه العبيدلي، الذي برزت له مجموعة من المسائل المتعلقة بطبيعة الحياة والبقاء في تلك المناطق، كالحاجة الشديدة لوجود مصدر للحياة لسد حاجة العابر لتلك الفيافي والقفار، حيث لا ماء ولا نبات لمسافات مديدة. إلى جانب أن خير وسيلة لإيجاد ما يبقي على الحياة هو في إيجاد إبل سيارة توفر الحليب، وهو عنصر غذائي يسد العطش والجوع. بالإضافة إلى أنه لا بد، لكي تستمر هذه الإبل في العيش، من أن تتخذ رمزية دينية، وهكذا كانت الأبل محرمة، يحق للمحتاج الانتفاع بلبنها دون لحمها، فإن أخل بهذا الشرط، عوقب، أو تعرض للفضية. لهذا يبين العبيدلي أن معرفة الإبل المحرم ذبحها، يعد بمثابة العثور على أصل مستمر إلى يومنا هذا لناقة صالح المقدسة، والتي أدى قتلها لمعاقبة ثمود.جغرافيا الحدثيلفت العبيدلي إلى أن اطلاع الكتاب العرب والمسلمين لم يكن بالشكل الكافي على منطقة وقبائل (المهرة) و(ظفار)، مشيرًا إلى أنها «بلاد بعدت عن مراكز الحضارة الإسلامية جغرافيا، وصعب الاقتراب منها ثقافيًا بسبب تحدث القاطنين بلهجات عربية قديمة إلى يومنا هذا. وهي بقاع ثرية بالتاريخ والآثار وربما عثر الباحثون بها على لقي احتفظت بها ثنايا تلك الأرض»، ولهذا عني الباحث في كتابه بمسألتين أساسيتين، الأولى ترجيح القول بتحديد موقع لأحداث نبوة صالح وقومه ثمود. والمسألة الثانية ترتبط بالأولى من حيث تحديد أصل (الأنباط)، وهم عرب عاصرت دولتهم الحضارة (الهلينيسيتية).ويشير العبيدلي إلى العديد من الاستنتاجات التي استنتجت أن مسرح الحدث، هو (البترا) التي بناها الأنباط، هو استنتاج خاطئ، كما أن تحديد جغرافيا الحدث بمنطقة (الحجر) المسماة ب (مدائن صالح) في السعودية، هو خاطئ كذلك، فيما يذهب هو لترجيع أن تكون جغرافيا الحدث في (المهرة الكبرى) أو (ظفار)، إذ يقدم العديد من الأدلة على هذا الترجيح، وينقض تلك التي تتعلق ب (البترا) و(الحجر).أللعرب البائدة بقاء؟من الاستنتاجات التي يخلص إليها العبيدلي في كتابه، استنتاج مثير يؤكد فيه بأن «العرب البائدة لم تبدِ»، مبينًا أن «العرب العرباء وهي أقدم العرب، لا تزال أقسام منها حيّة لم تتلاشَ ولم تنقرض، ولا تزال تحتفظ بعربيتها الأصلية وواصلت العيش، إلى عهد قريب». وبخلاف ما هو سائد، يستنتج العبيدلي أن العرب انقسمت إلى ثلاثة فئات، لا فئتين فقط، «بينهم قبائل سكنت الكهوف واستمرت فيها إلى يومنا هذا. ولأجل أن تحصل على مآويها تلك حازت لها كهوفا إما حفرتها الطبيعة، وإما نحتها البشر. والفعل الأخير هو الأصل للنطق القرآني)وثمود الذين جابوا الصخر بالواد»، موضحًا أن «ظفار شكلت مركزًا لاستخدامات الكهوف للسكن.ويلفت العبيدلي أن «العرب ليست بعرب طارئة، وإنما ربما كانوا بعض من شكل أصل العرب وأسهموا وقبائل أخرى في الجوار في تشكيل الجماعة البشرية الأولى التي انبثق منها العرب»، مبينًا أن قوم ثمود قد شوّهت سمعتهم لدى العرب قاطبة، «وهذا ما يبرر أنهم يسمون أنفسهم بالأنباط وسط العرب، ولكنهم يعرفون باسم ثمود حين التحدث مع الرومان أو الحضارات العراقية».وينتهي العبيدلي من خلال بحثه في منطقتي (المهرة) و(ظفار)، إلى ضرورة «إعلان منطقة المهرة منطقة كوارث آثرية كبرى»، قاصدًا بهذه المنطقة، «تلك الأرضين الممتدة من حضرموت إلى داخلية عمان وجزيرة سوقطرى إلى الجنوب منها ويضاف لذلك حضاريًا وثقافيًا بعض القرن الأفريقي»، مؤكدًا أن «كل ما هو مطلوب الحفاظ عليه ينتظم حاليًا أساسًا في الروايات الشفاهية، وعلى ألسن السكان الذين يضطرون تحت وطأة ضرورات حياتهم المعاصرة لاستبدال نمط حياتهم وتبني لغات أخرى ومواجهة صعوبات متعاظمة تثني عن تنشئة الجيل الجديد على تقاليد ولسان الأقدمين»، مشيرًا إلى «كل رجل يتوفى هناك، يأخذ معه إلى القبر قدرًا هائلاً من الممارسات والعادات والذكريات، والأهم، يغادر حاملاً معه الكثير من اللغة والألفاظ». كما يناشد العبيدلي إلى اهتمام الباحثين والأكاديميين برصد وتدوين وتسجيل ما بقي من سجلات، «بشكل يضمن له البقاء والانتقال للأجيال القادمة».
مشاركة :