اليابانيون يعيدون بناء قلعة حجراً حجراً

  • 2/10/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

في حديقة وسط مدينة كوماموتو في جزيرة كيوشو التي لا يؤمها زوار كثيرون، أقصى جنوب غربي اليابان، يمكنك رؤية مجموعة من السكان المحليين يحاولون جاهدين إكمال ما يمكن تسميته أصعب بناء مُركب من القطع الصغيرة المحيرة في العالم. إنها مشكلة هائلة في ظل وجود قطع تغطي مساحة بحجم ملعب كرة قدم، علاوة على أن التركيب معقد جداً إذ إنه سيستغرق نحو 20 سنة لإكماله. وجنباً إلى جنب مع ذلك، يعمل هؤلاء السكان بأنامل تعلوها علامات من الطباشير بسبب ترقيمهم لمئات من الحجارة التي تم ترتيبها في أنماط على شكل لوحة شطرنج، ويصورون كل واحدة منها، في محاولة لتحديد الوضع الصحيح لكل قطعة من هذه القطع. ويعملون في حر قائظ في صمت مهيب، ورؤوسهم منحنية وكأنهم في صلاة من الصلوات. وبالنسبة إلى العين التي تنقصها الخبرة والتجربة يبدو الأمر وكأنه تمرين يكتنفه الغموض، لكنه في الحقيقة مهمة ستؤدي في النهاية إلى إعادة تلك الكتل إلى نسيج أكثر مباني المدينة رمزيةً: قلعة كوماموتو، المعروفة في كافة أرجاء اليابان بلونها الأسود المميز. ويلتزم هؤلاء السكان التزاماً شديداً بإعادة الحجارة بدقة صارمة وترميم الجدران المحيطة، لأنه عند اكتمال آخر قطعة ستكون أشهر القلاع اليابانية قد عادت إلى الحياة من العدم. تقول المرشدة السياحية المحلية شوكو تانغويشي وهي تضع يدها على قمة كتلة من الكتل وتشير إلى موقع إعادة البناء: «رؤية هذا تجعلني أشعر بالحزن الشديد». وتضيف، وأمامها العمال الذين يرتدي بعضهم قبعات صلبة وبعضهم يرتدي كمامات طبية لتجنب تنفس الغبار مع هواء الشهيق وجميعهم في وضع انحناء يتفحصون أكثر من اثني عشر صفاً من كتل الحجارة: «هذه القلعة أكثر من مجرد رمز لكوماموتو. إنها مهمة بالنسبة إلى اليابان ككل. لكنها اليوم مقبرة لشواهد القبور المدنسة». ومن المستحيل أن تزور اليابان هذه الأيام من دون أن تمر بإحدى القلاع، مثل قلعة هيميجي البيضاء (هاكورو جو) أو قلعة طائر البلشون الأبيض التي حصلت على جائزة من اليونسكو بسبب احتوائها على شبكة محصنة تضم ما يزيد على 80 برجاً من الأبراج الدفاعية. وهناك أيضاً قلعة ماتسوموتو السوداء اللامعة المسماة «كاراسو جو» أو «قلعة الغراب»، وهي أقدم حصن في البلاد يعود إلى عام 1504. وتحتوي مدن طوكيو، وأوساكا، وناغويا، والمدن الأصغر مثل أوداوارا وهيكوني وتاكيدا وماتسوياما وكانازاوا وأوكاياما وغيفو، على حصن أو قلعة في كل منها. كما تضم خنادق مضاءة بأضواء خافتة، ويعلو الغبار أرجاءها الداخلية. وأحياناً، يشعر المرء بأن هناك الكثير جداً من القلاع التي تتشابه في تصميمها. ويكثر الحديث عن القلاع في اليابان عموماً وعن قلعة كوماموتو في شكل خاص. وبعد أن ضرب زلزال بقوة 7.3 درجة بمقياس ريختر المدينة في 16 أبريل (نيسان) 2016، أصبحت قلعة المدينة أثراً بعد عين. ولم تؤد الهزات الارتدادية إلى تدمير المدارس والمكاتب فحسب بعدما أدت إلى مقتل 225 شخصاً وإصابة أكثر من 3000 آخرين، بل ألحقت الهزات التي تلت الزلزال أضراراً بـ 190 ألف منزل، محولةً أجزاءً من القلعة السوداء، الحصن الذي لم ينكسر أمام الغزوات لأكثر من 400 عام من تاريخه، إلى خراب. وانهارت الأبراج الحجرية والجدران المقوسة المعروفة باسم «موشا غاييشي» تماماً. أما الجزء الأكثر فخامة والمعروف باسم «تونشوكاكو» أو حافظ القلعة، فقد تعرض لدمار من أثر الزلزال، كما انهار بلاط السقف وتداعت الأساسات وتهاوت زينة القلعة من عليائها لتسقط على الأرض (وهي عبارة عن حيوانات فلكلورية برأس نمر وجسم سلطعون). تقول تانيغوشي وهي ترنو إلى برج تينشوكاكو ذي الخمس طبقات والذي يختفي اليوم تحت السقالات: «لا يمكنني تصور مدى تعقيد مهمة إعادة بنائها. وربما يعود له سحره في يوم من الأيام». هذا الشعور بالفخر لدى اليابانيين وطريقتهم الدقيقة في الحفاظ على تراثهم مكناهم من إعادة بناء هذه القلعة المندثرة، وهو ما سيكلف الحكومة اليابانية 63.4 بليون ين. ووفق الخطة العامة الحالية لترميم قلعة كوماموتو فإن الأعمال الرئيسية ستبدأ عام 2018 حيث ستفتح أجزاء القلعة أمام الجمهور تدريجيا بعد التأكد من أن المناطق المكتملة آمنة. وفي غضون ذلك، يستمر تدفق المساعدات من كل أنحاء اليابان. يقول مدير حماية الأملاك التراثية في مركز أبحاث قلعة كوماموتو إسيسي كندا: «طاول القلعة دمار لم يسبق له مثيل جراء الزلزال، لذا فإن الترميم يحتاج كثيراً من الوقت، والمال، والمعرفة المتخصصة، والتكنولوجيا والأيدي العاملة البشرية. ونظرا الى قيمتها الثقافية الجوهرية وأهميتها كموقع تهوي له قلوب الحريصين على متعة البصر، فإننا نخطط للمضي في عمليات الترميم بأسرع الطرق الممكنة». وعاشت قلعة كوماموتو فصولاً لا بأس بها من الأحداث والتطورات عبر القرون، إذ تعود القلعة السوداء إلى عصر الساموراي، الذي غرقت فيه اليابان بحقبة مضطربة من الحروب بين الدول والعائلات الإقطاعية. وتشبه قصة القلعة روايات الخيال التي لا تصدق. قبل تشييدها عام 1607، كانت كيوشو تترنح تحت وطأة الثورة قبل الصناعية، بينما يتصارع زعماء الساموراي من أجل السلطة والنفوذ من خلال وضع اليد على الأراضي. وكان التغيير آتياً إلى اليابان، فإلى الجنوب حيث ساتسوما (اليوم هي عبارة عن كاغوشيما)، قاد موت شوجن تويوتومو هيدايوشي، الزعيم الساموراي والسياسي عام 1598 إلى ازدياد التوتر من قبل الفصائل المنافسة، بما في ذلك قبيلة شيمازو، وهي واحدة من أكبر العائلات قوة ونفوذاً في اليابان، والتي تشكل معارضة قوية. ومن أجل حماية كوماموتو في حال التعرض للغزو، قام كاتو كيوماسا ببناء القلعة عندما كان قائداً لجيش هيديوشي. ولمعرفته بشعار الساموراي القائل «الموت أو المجد»، عرف كيوماسا أن القلعة ينبغي أن تكون حصينة في حال تعرضها لهجوم من خصومه. لذا قرر أن تكون شامخة في وجه أي هجوم، وبنى لذلك الغرض قلعة من 49 برجاً و18 مقصورة للمداخل و29 بوابة. ولم يكن أحد يجرؤ على محاولة السيطرة عليها، أو هكذا كان يظن.

مشاركة :