أمواج متلاطمة عاشتها أعالي بحار الشعر العربي منذ أكثر من قرن، ورياح مناوئة بين العمودي وشعر التفعيلة، وما يسمى بقصيدة النثر أو النثيرة، بين الإحيائي والرومنسي والرمزي وفوق الواقعي والتجريبي. صراع معرفي أحياناً وأيديولوجي أخرى، بين من يرى في الشعر أغراضا ومنافع ومناسبات ومتعا عاطفية ومناسبات عابرة، ومن يراه موضوعات ومشاعر وأحلاما وتساؤلات والتزاما بقضايا المجتمع والإنسان عامة، وبحثاً دؤوباً عن إيقاع جديد جدّة مشاغل العصر وهمومه، أزمة عنيفة في الفكر الأدبي الحديث انتهزتها الرواية فافتكّت من الشعر جانباً من شعريته، واهتبلتها القصة القصيرة فتطاولت على عرش الشعر وأرباضه، واقتلعت منه صدفات جميلة. في خضم هذه الفورة راح الشاعر -كي لا أقول أمسى- راح يبحث عن أفق يرنو إليه ويسرّح في مجاهله ومتاهاته شعاع مغامراته وتجاربه، راح يبحث عن هوية ثقافية أقضّ مضجعَها أزيز السؤال بل عذّبتها حرقة التسآل، راح يتلمّس لقلمه الذي أنهكه العطش ينبوع حبر يرويه ليخطّ به سبيلا للخلاص. في هذا الخضم وفي هذا العصر الذي يحاصر الشعرَ من جهاته الستّ يقدح عبدالله بن سليم الرشيد نور شمعة أخرى من شموع الدرب الإبداعي، وينير ركنا آخر من أركان الفضاء الشاعري سمّاه قنديل حذام. ولا ندري، وينبغي ألا ندري، هل كان هذا القنديل يبحث عمن يقدح فيه النور أم كان يحمل إلينا نوراً، وعلى كل حال فقد اصطفى الشاعر هذا العنوان العتبة من عالمه الاستعاري الذي قال فيه مما قال: «الكلمة جمرة إما أن تتمرد نارا أو أن تصبح نسيا في حفره (ص72)، وقال عنه في قصيدة أخرى: «قنديله في الليالي الغيد مكتحل * بالحلم يجتذب الأنفاس وَلْهانا (ص43) وإن أقرّ الشاعر في الإهداء بأنه استيقظ من رقدة لا نعلم مداها(ص11). ومنذ العتبات الأولى من المجموعة يُشعر الشاعر متلقّيه بأنه مُنشدّ إلى عالم البدايات، إلى عالم الكون الساحر للشاعر الرومنسي، وبأنه ملتفت إلى ثقافة التداعي الحرّ والأنساق المفتوحة والاعترافات: «في البدء كان الاعتراف»، مصطلحان من مصطلحات الفكر الرومنسي في فضاء شعري عطره من أقاصي مملكة الشعر وأحراشها وأدغالها، ومفهومان من مفاهيم معجم العود على البدء الرومنسي رغبةً جامحةً لا تنفكّ تتكرر ويتسع مداها الرومنسي في قصائد المجموعة ومقطوعاتها ونتفها ولوحاتها النثيرة. فمن تعريف عبدالله بن سليم الرشيد للشعر ينبجس ذلك الصوت الرومنسي الحالم الذي يعدّ القلب نافورة الإحساس والعاطفة والفضاء الذي يحتوي الكونين في آن: الطبيعي والثقافي كليهما، يعود الشاعر إلى تلكم النفحات الشعرية التي يقاوم بها الشعراء صلف العقل وجنوحه للتعالي الآثم: لا تُصْغِ للشاعر إن كان لا يختصر الأحقاب في سطره أو كان لا يستفّ عشب الضحى ولا يمور الكون في صدره(ص 16).. يعود الشاعر في عامة أنفاسه الشاعرة إلى القلب بصفته بؤرة الإبداع ومنبعه، يعود إلى ما ألفناه عند شعراء الرومنسية الأوائل من ظاهرة تسمّى اليوم «الشعر على الشعر» تعرّفا له من خلال معجم القلب:» الشعر قلب رهيف إن عبثتَ به جرحتَه فلوى شطريه غضبانا (ص42). هذه العودة الرومنسية إلى البدايات لم يخفها الشاعر وهو يكتب تأمله في صورة الموت راثيا أباه أو حين يصوغ حكاية مداعبته لابنه وهو في عامه الرابع، فيرتمي في أحلام الطفولة ذلك الكون الشاعري الرومنسي الذي تتماوج ظلاله وأنواره في عامة ما كتب الرومنسيون من قصائد: ألا يا للطفولة كم تختالنا ونختلب تحّرقنا بها ولها كما يتحرّق الحطب تُطيّرنا عصافيرا يباغت جوعها الرطب (ص 37). فكأنما يتناسى الشاعر في هذه النفحة الرومنسية الموضوع أو المناسبة أو لعله يتناساها فيعود إلى ذكريات الطفولة في فضائه الشعري ويستدعي صغيره أو يستضيفه في ذلك الركن القديم الظليل ليقدّم له رشفة من قهوة التذكّر وليركّب قطعه اللغوية اللَّعِبية، وينزع قناع الأبوة أو تنزعه عنه عصافير كونه الرومنسي بأجنحتها الفضية وبرياحينها وذرذرة الطفل الذي كان أو ربما مازال. ألم يقل بعض جهابذة الشعر: «إن استطعت أن تظلّ طفلا استطعت أن تكون شاعراً»، : « مهنّد أوقِدِ الأفراح إنّ الليل يقترب»(ص38). هذا العود الأبدي الدائري إلى البدء، إلى أصول ثقافة الكائن البشري وأفكاره وأحاسيسه المتحرّرة من القيود والتوّاقة إلى زمن الاستعارات الحرّة، زمن الأساطير والحكايات الماتعة، توق النهر إلى ينابيعه (ص23) والمشرئبّة إلى الفكاك من لوازم التكاليف المملّة، هذا العود هو الذي يحرّ ك الفعل اللغوي الرومنسي، على الحقيقة أو على المجاز كما في قوله: «لو خُيِّر الروض العجوز فهل يرى* لهواه إلا أن يعود شجيرا؟»(ص46). هذا الكون الطفولي المستعار من عالم الطيران عند الرومنسيين تشاكله في معجم الشاعر الدلالي عدة صور أو كوكبة من أقطاب دلالية مستمدّة من ذاكرته الرومنسية ومن طروسها الإحيائية، هي أقطاب دلالية تتحوّل فيها الكائنات الشفافة الجميلة في لون من ألوان تراسل الحواس إلى استعارات صورية وأحياناً تصويرية يدركها الشاعر بحواسّ الذوق من خلال حاستي البصر والسمع، فالزمن كما هو الشأن عند الرومنسيين يتحوّل في ممرات الخطاب ودروب حديقة الشعر وجداولها إلى رحيق مسكوب في ذات الشاعر. هو الزمن الرومنسي المنشود، زمن الحدود والتّماسّ والتخوم والتماوج بين النور والظلام، بين الماء والنار، بين الليل والنهار، بين السكون والحركة، بين الحقيقة والوهم، بين المعنى واللامعنى: « تهدّدْ قد سكبت الفجر كوبا* أميط به مرارات النعيق»(ص45). هو زمن الانصهار بين حركة الماء منسابا وحركة النور مُذابا في صورة رومنسية غدت طرازاً من أطرزة بناء العالم الساحر في نظام التمثيل الرومنسي: «بأيّ شلال ضوء جئتَ يا قمرا * هالاته في انسكاب الأفق قمراء؟» (ص100). هو فجر المعرفة التي تكون في برزخ «البين بين»، هذا المعجم أو النسق الاستعاري يستمرّ في هذه المجموعة الشعرية ليعبّر عن اتجاه في رؤية الشاعر أو عن نوع من الإصرار على التوقيع كما قلنا بأحرف رومنسية على طروس إحيائية، ففأغنية إلى الضدّ يقول: « أنا من رحيق الصدق صغت قصيدتي وقد ملك الشكّ العيون وزمزما(ص81). وفي تهويمات موجزة يقول: «سكبتُ للصبح نخبَ الشوق والفرح * حتى تسرّب نبضا في مدى قزحي(ص74). وكادت شعرية الاستعارات المائية والنورانية في هذه المجموعة أن تعصف بنظام التمثيل القديم، وهمّت أكثر من مرة بمجاوزة خطاب البيان وهدم منطق المشابهة القائم على معقولات الشعر الإحيائي في ضرب من ضروب الانزياح الأنطولوجي : كأنها لست أدري ما أشبّهها؟ لأنها غاض ينبوع استعاراتي (ص22) وربما كان منتهى ما بلغه الشاعر في الالتحام مع الكون الرومنسي ومجاوزة المعنى البياني وتعتعة الانسجام الخطابي القديم ذلك الرسم المفصح عن معنى الجمال في الشعر أو فلسفة الجمال فيه، أوَ ليس تعريف الشاعر للجمال هو المدخل الطبيعي لفهم رؤيته ومذهبه؟: «والجمال الجمال أن تفرش الوقت ابتساما وتنقش الصبح رسما»(ص55)، أجل لقد تداخلت لغات الفنّ في ظلال المكان والزمان في خطاب الشاعر من نقش ورسم ولفظ، فكان الجمال عنده كونا متنافذ اللغات متفاعل الأصوات، وما هذا إلا لبّ الفكر الرومنسي وجوهره، يوضّحه في عالم الشعر تحوّل الزمن عنده من زمن موضوعي عقلاني خطّي إلى زمن باطني عاطفي، متكسّر، يقطّعه من خلال إيقاع القلب : «ساعتي ليست بستّين دقيقه ساعتي ستون خفقا» (ص85). لقد استبطن الشاعر الزمن الموضوعي وإيقاعه الفيزيائي، وصاغه كما صاغ أطباء القرن الثامن عشر الأوائل الفكرة الرومنسية في الكون البيولوجي الباطني، وأعاد إلى كثير من الصور شيئاً من الإيغال في الشعر أو لونا من ألوان الغلو بريقًا مستوحى من حزن الذات الشاعرة في لجج قضايا المجتمع الحديث: يا ماء ما كنتَ ترضى ميتة ظمأ لو ذقتَ طعم الظما يا أيها الماء» ( ص101). لكن هذا المخيال الرومنسي الموغل في ذاتية الشعر ذي الاتجاه «التعبيري» لم يمنع الشاعر من نسج وشائج قشيبة مع قيم الشعر الإحيائي ومقولاته لا في مستوى الإيقاع الإطاري ونظام التمثيل الشعري وفي خَطابية الأسلوب واتجاهه المطرد نحو الآخر الاجتماعي فحسب بل كذلك -وهو الأهم عندي بصفتي محبّا لإنسية الشعر- في مستوى ذلك التحاور الإنساني مع العلامات الشعرية الخالدة في تاريخ الشعر العربي، هذه العلامات التي تُجاوز الحدود بين الثقافات والأجيال والمذاهب، وتحكي مسار روح الإنسان المتسائلة، المتأمّلة، فانظر إليه كيف ينسج على منوال قول المعري «خفّف الوطء ما أظنّ أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد» وعلى تفجّع عمر الخيام حين يقول في رباعياته: «فامش الهوينا إنّ هذا الثرى من أعين ساحرة الاحورار «فهذه الخضرة من بعدنا تنمو على أجسادنا في التراب»، هذه المعاني السابحة والتأملات المنتشرة في أمواج أثير الأرض وذرات ترابها لقرون وقرون خلون من تاريخ الفكر البشري، حيث يتعانق الشعر والفلسفة في استعارة متصلة متنامية الأغصان يعبّر عنها الشاعر من جديد بقوله: «وها هنا ركضت أصوات من عبروا فخفّف الوطء بعض الصوت في الرمق»(ص 98). وبعد فإننا نرى أنّ بين قضايا الإنسان في المجتمعات العربية الحديثة وأحداث الساعة وقضايا الكائن العابرة للزمن المتطلعة إلى الإنساني من القيم ما جعل عبدالله الرشيد يوازن في تأملاته الشعرية أو شعره التأملي بين القصيد الوفي تمام الوفاء لبلاغة لغة الضاد في صور ها الأولى، المنغرس في تربة القديم من الرؤى لغة وصوراً وروحا والنتفة الشفيفة المتحررة تمام التحرر من إيقاع القصيد، المتسلّقة لأسواره الشاهقة، غير المستنكفة من أن تجالسه وتناجيه في فضاء واحد هو فضاء القنديل الدافئ، والمتطلعة إلى لغة العصر مدّا وجزراً يحاكي بها جميع ما في هذه الكائنات من علامات الحياة في تسآلها الدؤوب عن هويتها الثقافية وخصوصية شعريتها الموقّعة بحروف رومنسية على طروس إحيائية.. بين دروب الفن والفكر.. «وها هنا هيّأتْ نفسي ملاسنها للأمس لليوم للمستقبل الآتي» (ص23). ** **
مشاركة :