البيوت الآمنة تفتح أبوابها للهاربات من سطوة العنف الذكوري فتحت العديد من الدول العربية “البيوت الآمنة” لحماية النساء المعنفات والهاربات من قسوة أب أو زوج أو أخ أو طليق اعتدى على إحداهن أو هددها بالقتل، وتحمل هذه التجربة في مصر عدة سلبيات يطالب العديد من المختصين بتداركها وإيجاد حلول جذرية لها، ذلك لأن الفكرة كانت في بدايتها رائعة وملاذا للكثيرات.العرب شيرين الديداموني [نُشر في 2018/02/11، العدد: 10897، ص(20)]محاولة محو الآثار السيئة القاهرة - ظهرت فكرة البيوت الآمنة كمراكز لإيواء المعنفات في الولايات المتحدة في أربعينات القرن الماضي، ومع بداية القرن الحالي وصل عددها إلى نحو ألفين، وفي أوروبا أنشئ أول بيت آمن للمرأة في سبعينات القرن الماضي، فيما ظهرت في قارة آسيا خلال التسعينات مراكز إيواء للنساء الناجيات من العنف. وشغلت الأعداد المتزايدة للهاربات من العنف الأسري أو الجنسي النساء المنخرطات في منظمات وحركات ومبادرات حماية المرأة بالدول العربية، فبعد أن أصبحت بعض المنازل بيئة غير آمنة للفتيات ليعشن بسلام، كان لا بد من توفير ملاذ آمن لحمايتهن من تكرار التجارب القاسية التي مررن بها. وانتشرت بعض البيوت الآمنة بعدد من الدول العربية أيضا، ففي المغرب هناك ما يقرب من أربعة مراكز. فيما يُعد مركز “تمكين” أول مركز نموذجي لإيواء النساء المعنفات في تونس. أما في الجزائر فقد أسست جمعية “نساء في الشدة” مركز إيواء في 1995. وهناك ثلاثة مراكز في فلسطين موزعة بين أريحا ونابلس وبيت لحم. وفي لبنان ثلاثة مراكز وفرتهم مؤسسة “أبعاد”. وتوجد في دولة الإمارات العربية مؤسسة دبي وهي أول دار لرعاية النساء والأطفال من ضحايا العنف الأسري. في حين تحوي المملكة العربية السعودية أكثر من عشرة مراكز إيواء للنساء. وفي البحرين هناك دار الأمان للإيواء المؤقت المجاني للمتعرضات للعنف الأسري. وطبقا لتقارير وزارة التضامن الاجتماعي في مصر، يُقدر عدد مراكز استضافة وتوجيه النساء المعنفات بتسعة أماكن تغطي محافظات الإسكندرية (2 مراكز) والقاهرة والجيزة والقليوبية والدقهلية والفيوم وبني سويف والمنيا. لكن وبعد مرور أكثر من عقد ونصف العقد على هذه التجربة هل نجحت تلك البيوت أن تكون ملاذا آمنا للمعنفات وأطفالهن؟ وهل هي مؤهلة بالفعل لاستقبال الناجيات من العنف؟الدعم المؤسساتي يساعد المعنفة على المقاومة، لأنها ستجد أخريات لهن نفس ظروفها ومررن بمعاناتها، وذلك يحقق لها نوعا من التضامن الأنثوي حياة بلا عنف أشار حنفي محمد، وكيل وزارة التضامن الاجتماعي (جهة حكومية) سابقا، إلى أن بعض السيدات عندما يهربن من العنف لا يجدن مأوى حتى لدى أقاربهن، ومن هنا كانت الضرورة بإنشاء دور في المحافظات لتكون بمثابة بيت العائلة لهذه الفئة من النساء وأطفالهن. وتأسس أول بيت من البيوت الآمنة للنساء في مصر عام 2003 ضمن سلسلة مشاريع تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، وممولة من طرفها وتقرر الوزارة إسناد إدارتها إلى جمعية أهلية لكنها تبقى تحت إشرافها إداريا. وما عدا البيوت الآمنة الموجودة في محافظتي بني سويف والقليوبية التي تخضع للإشراف الحكومي، فإن باقي البيوت تم إسنادها إلى جمعيات أهلية، لكنها ممولة بالكامل من وزارة التضامن الاجتماعي وتخضع لإشرافها. ويأتي التمويل من إعانات مقررة من الوزارة ورسوم اشتراكات النساء المترددات على الدور، إذا كانت لديهن موارد، وهناك أيضا تبرعات ومنح لتلك البيوت بعد موافقة الجهة الإدارية المختصة. أما بيوت المجتمع المدني فتتكفل بتمويلها جمعيات بعد الحصول على تصريح من وزارة التضامن الاجتماعي لإنشاء البيت الآمن، وتخضع لإشراف دوري من الوزارة. وتصل القدرة الاستيعابية لجميع البيوت الآمنة الموجودة إلى حدود 230 ناجية، وتتكون أغلبها من غرفتين أو ثلاث مزودة بعدة أسِرَّة ومطبخ وحمام، لكن عندما يكون البيت جزءا من مبنى لجمعية تقوم بتقديم خدمات أخرى كتخصيص مكان ترفيهي للأطفال. وهناك ثلاثة أنواع مختلفة من البيوت الآمنة، الأولى “بيوت طويلة المدى” تسمح للنساء بالبقاء مدة غير محددة لعلاجهن نفسيا وجسديا، أما الثانية فـ”قصيرة المدى” يمكثن فيها مدة لا تتجاوز العام في أغلب الأحيان يتم خلاله مساعدتهن على اتخاذ قرار العودة أو تأهيلهن للعمل والاندماج في المجتمع، وهناك “بيوت الطوارئ” وتختص بتقديم الخدمة السريعة والمباشرة، وتوفير حماية مؤقتة لا تتعدى ثلاثة أيام. وأوضح محمد لـ”العرب” أنه يتم تحويل النساء إلى البيوت الآمنة عن طريق الخط الساخن لمكتب الشكاوى بالمجلس القومي للمرأة، والمنظمات غير الحكومية التي تعمل مع المعنفات، وفي بعض الأحيان عن طريق المستشفيات شرط ألا يكون لديها مكان إيواء آخر أو مريضة نفسيا.إعادة ترتيب الأفكار وفور حضورها إلى البيت الآمن يستقبلها طبيب ومحام وأخصائية اجتماعية ونفسية للتعامل مع ما تعرضت له من عنف، ويتم تحرير محضر بقسم الشرطة لإثبات التعدي الذي تعرضت له بدنيا، وإذا كان جسدها يحوي حروقا أو كسورا أو كدمات يتم تدوين تقرير طبي بحالتها. وكي لا تكون الدار ملاذا للهاربات من أحكام قضائية تقوم الأخصائية الاجتماعية بالدار بالاطلاع على مستندات إثبات هويتها والقيام بالإجراءات الشرطية اللازمة للتأكد من سلامة موقفها القضائي. وقالت هالة أبوشحاتة، عاملة بمركز رعاية المرأة والطفل بالإسكندرية، لـ”العرب” إن البيوت الآمنة تستضيف المرأة المعنفة المصرية فقط ولا تقبل اللاجئات أو غير حاملي الجنسية، إن وقع عليهن العنف في مصر، إلا إذا كانت الناجية متزوجة من مصري أو مطلقة في شهور العدة. وأوضحت أن الإقامة في البيت مجانية، إذا كانت المرأة بلا دخل مادي، وإذا كانت عاملة تساهم بثلث راتبها مقابل استضافتها، وسمح لها مؤخرا باصطحاب الأطفال حتى سن 12 سنة للذكور وأي سن للإناث. وأشارت إلى أن البيت الآمن التابع للمركز يستوعب حوالي 90 حالة ويهتم برعاية المرأة والطفل على السواء، حيث يحتوي على حضانة للأطفال، كما يضم أيضا مركزا حرفيا لتعليمهنّ الخياطة وأعمال السجاد والمشغولات اليدوية كي يستطعن مواجهة الحياة وكسب قوتهن بعد تأهيلهن نفسيا. وأكدت أنه يتم توجيه دعوى للمنسوب إليه أقوال المعنفة، سواء كان الزوج أو الأب أو الأخ، لمحاولة الصلح والحفاظ على كيان الأسرة ومستقبل الأبناء، وتتم تهيئة المرأة خلال فترة إقامتها بالدار لتخطي الصعاب مع زوجها، وتعليمها كيفية إدارة الخلاف الزوجي، من خلال ندوات توعية يحاضر فيها متخصصون في علم الاجتماع. وتتم في حالة الوصول إلى طريق مسدود رعايتها حتى تحصل على حقوقها، ويوفر البيت محاميا للحالة لرفع دعوى طلاق أو نفقة أو حضانة ويساعدها طيلة فترة الدعوى بالدعم النفسي والاجتماعي والقانوني ولكل حالة ملف يخضع لرقابة وزارة التضامن. طاهر في منبت سوء يعد الوصول إلى أحد البيوت الآمنة عن طريق الخط الساخن المسجل بدليل الهاتف شبه مستحيل، وإن صادف وتم العثور على رقم لها فلا أحد يرد أو تصل إلى الأذن رسالة صوتية بأنه “مرفوع مؤقتا من الخدمة”. ويبدو أن الهاتف ليس فقط هو المرفوع من الخدمة، بل البيوت أيضا، فالذهاب إلى العنوان المدون على المواقع الإلكترونية يتطلب معاناة تنتهي في الكثير من الأحيان بمكان مغلق أو مجهول، وهو ما أثار التساؤل كيف ستصل النساء المعنفات إلى تلك البيوت بحالتهن الصحية والجسدية والمادية والتي لا تؤهلهن لهذا البحث المضني؟2.5 مليون امرأة أصبن بنوع واحد أو أكثر من الإصابات على يد الزوج أو الأهل، 2.3 مليون امرأة تعاني سنويا نفسيا نتيجة لعنف تعرضت له ورفضت بعد العديد من محاولات الوصول إلى أحد “البيوت الآمنة” الكائن بمنطقة شعبية على بعد 38 كم من العاصمة المصرية القاهرة، المسؤولة عن البيت دخولي دون وجود تصريح من وزارة التضامن الاجتماعي. ولأن صعوبة الحصول على تصريح لا تختلف كثيرا عن العثور على البيوت الآمنة، كان الانتظار بالخارج هو الحل لمحاولة التعرّف على قدر مما يدور داخل البيت. وخرجت سيدة أربعينية، بعد ساعات من الانتظار، لم تبد رغبة في الحديث وبدا التململ عليها من الوقوف، لكنها أشارت إلى أنها تدعى هيام وتعمل بالمركز منذ سنوات، مؤكدة أن الحالات بالداخل سرّية ولا يمكن الحديث معهن وأغلبهن يأتي للمشورة. وأوضحت أن أغلب من استقبلتهن كانت حالات عنف جنسي أو جسدي من قبل الزوج أو الأهل بادية عليهن، وتتراوح بين الضرب المبرح وحروق من الدرجة الثالثة في الجسد وكسر للعظام، أو استخدام آلات حادة وتعذيب بالكهرباء من قبل الزوج أو الأسرة، ومن النادر أن تهرب النساء بسبب الاغتصاب الزوجي، إضافة أن القائمات على البيوت الآمنة لا يعتبرنه عنفا. ولمحت العاملة بأنه من الممكن الحديث إلى إحداهن، حيث يسمح للناجية بالخروج في الصباح للعمل أثناء إقامتها بالبيت خلال اليوم بعد الحصول على تصريح به موعد محدد للرجوع. وخرجت بالفعل في صباح اليوم التالي، فتاة بدا على وجهها الارتباك عند التوجه للحديث معها، وتلفتت يمينا ويسارا قبل الرد على أي أسئلة وكأنها تخشى أن يكون هناك من يتربص بها. ورفضت الفتاة ذكر اسمها لكنها سخرت من سؤالها عن المتواجدات بالداخل قائلة “من الأفضل عدم الدخول فجدران البيت تحوي عناوين لقصص مأسوية تقشعرّ لها الأبدان مسرحها البيت الزوجي وتتنوع ما بين ضرب وتعذيب وحرق”. وجاءت الفتاة إلى البيت بعد تعرضها لتشويه جسدي على يد زوجها، فكان يحلو له حرق أماكن متفرقة من جسدها بالنار. وأضافت الشابة العشرينية وهي تغالب دموعها “لقد تحول بيت الزوجية إلى زنزانة تعذيب ولم يعد أمامي سوى الهرب لإنقاذ حياتي”، وذهبت إلى بيت أمها ولكنها لم تتقبل فكرة هجرها لبيت زوجها وقامت بطردها وإلقاء متعلقاتها الشخصية في الشارع.تزايد المطالب لوقاية النساء من العنف وحالفها الحظ ووجدت سريرا لها في البيت الآمن الذي دلتها عليه صديقتها، مشيرة إلى أن الإنسانية تتجلى في كل مكان داخل البيت، حيث يستقبل النساء ويحميهن ويوفر لهن الإيواء والأكل والشرب والحماية الجسدية، وأيضا يحيي لديهن الأمل في الحياة. ويبدو البيت “طاهرا في منبت سوء”، فحينما أسدل الليل ستاره على المنطقة تكدس العشرات من الشباب أمام المركز، بعضهم افترش الأرض وآخرون كشف ضوء القمر عن عيونهم المتربصة تراقب البوابة الحديدية لعل امرأة تخرج أو تدخل، فتكون صيدا سهلا لهم. تضامن أنثوي شرح مصطفى سمير، باحث سابق بمركز النديم لعلاج وتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، أنه في بداية إنشاء تلك البيوت كانت هناك مقاومة شديدة داخل وزارة التضامن الاجتماعي لاعتقاد غريب بأنها تشجع النساء على الانحراف وهجر بيوتهن. ورصد الباحث أثناء عمله بالمركز أن أغلب هذه البيوت تسكنها الأشباح بعد معاناتها من مشكلات كثيرة، أهمها التمويل، حيث تم تخصيص ما يقارب الألف دولار لكل مركز كإعانة سنوية تشمل الرواتب والدورات والاجتماعات وهو مبلغ ضئيل جدا لتغطية عملها. وأضاف أن هناك تفاوتا على مستوى المباني والراحة والنظافة؛ فبيت المنصورة بمحافظة الدقهلية فقير جدا، وبالمثل البيت الآمن بمحافظة المنيا قديم ومتهالك وآيل للسقوط في أي وقت. وصرح أن الوزارة منحت إدارة بعض الدور لأناس غير مؤهلين لهذا العمل، فمنهن من كانت تعمل في مباحث الآداب وكن متعسفات تجاه الحالات المتقدمة للدار وينتابهن الشك تجاه الجميع، وأخريات كانت تجبرن السيدات على الرجوع لأزواجهن والتحمل ما جعل الكثيرات يعرضن عنها. وأشارت هدى بدران، رئيسة اتحاد نساء مصر لـ”العرب”، إلى أنها قامت بزيارة أحد البيوت الآمنة التابع لمركز “أمان الأسرة” بالسادس من أكتوبر، ووجدت فيه حالات كثيرة تم تأهيلها نفسيا وأصبح لديها الأمل من جديد بعد الاستماع إليها وإرشادها ومؤازرتها قانونيا ودعمها نفسيا، وتمت متابعة ملفاتها القضائية أمام المحاكم، ومساعدتها على البحث عن سكن، وتعليمها حرف تساعدها على الخروج لسوق العمل. ويبلغ عدد النساء اللاتي يتعرضن للعنف في مصر سنويا قرابة 8 ملايين سيدة، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بالتعاون مع صندوق اﻷمم المتحدة للسكان، والمجلس القومي للمرأة، والذي أشار إلى أن 2.5 مليون امرأة أصبن بنوع واحد أو أكثر من الإصابات على يد الزوج أو الأهل، كما تعاني 2.3 مليون امرأة سنويا نفسيا نتيجة لعنف تعرضت له. وهو ما دفع المجلس القومي للمرأة لتقديم مقترح لوزارة الشؤون الاجتماعية بتفعيل عمل هذه البيوت على أن تغطي جميع المحافظات. كما سلطت حملة “حلم ولا علم” التي قامت بها مؤسسة نظرة للدراسات النسوية منذ أسابيع على الإجراءات التي من المفترض أن تتبعها الدولة لوقاية النساء من العنف، وطالبت بزيادة عدد البيوت الآمنة وتحسين كفاءتها ومطابقتها للمعايير الدولية، وأن يكون هناك على الأقل بيت آمن في كل قطاع جغرافي. وأكد حامد عبدالواحد أستاذ الطب النفسي لـ”العرب” على ضرورة تفعيل هذه البيوت وتطويرها والعمل على زيادة عددها، لأن المرأة المعنفة تشعر بالدونية وتعاني من مشكلات نفسية، مثل الإحباط والاكتئاب والقلق، ومن الممكن أن توجه العنف الموجّه إليها للآخرين وأحيانا تلجأ إلى الانتحار، لكن إذا علمت بأن هناك ما يسمى بالبيوت الآمنة فستذهب إليها. وقال عبدالواحد إن “استمرار تعرض المرأة للعنف وعدم وجود مأوى لها سيؤديان إلى استغلالها جنسيا أو استدراجها للانضمام للمنظمات الإجرامية والإرهابية، لكن الدعم المؤسسي يساعدها على المقاومة، لأنها ستجد أخريات لهن نفس ظروفها ومررن بمعاناتها، وذلك يحقق لها نوعا من التضامن الأنثوي، الذي من شأنه أن يخفف وطأة العنف لديها”. كاتبة مصرية
مشاركة :