وفقا لهذا الابتكار سيختفي الشكل الحالي للبنوك وشركات تحويل الأموال ومنصات بيع السلع والمنتجات والخدمات بالوساطة، باختصار كل المنصات والمراكز التي يقتصر دورها على تسجيل العمليات وحفظها لا بأس من التذكير بدايةً بتفويتنا فرصة لا تزال قائمة شكلها الاقتصاد الرقمي، فحينما كان العالم يبني نوعا جديدا من الاقتصاد المبني بشكل كبير على المعرفة وشبكة الإنترنت كنا مشغولين بإصدار الفتاوى «هل الإنترنت حلال أم حرام!»! وبينما كانت دول فقيرة تنشر وتسهل الوصول إلى الإنترنت ليخلق أبناؤها ملايين الوظائف والفرص، للعمل من منازلهم دون أي استثمارات عامة مكلفة سوى توفير الاتصال الرخيص، والمجاني في بعض الأحيان، بشبكة الإنترنت، كانت الدول العربية تعقد الاجتماعات للبحث في خطورة البريد الإلكتروني وكيفية حجبه! هكذا خلقت دول فقيرة كالهند وفيتنام والصين وغيرها من الدول أحجاما كبيرة من عائدات الاقتصاد الرقمي، في الوقت الذي واجهت مشاريع المبتكرين والمطورين والمبرمجين العرب عوائق شتى، بدءا من البنية التحتية القانونية وانتهاء بالتمويل. وفي الوقت الذي ما زال فيه البعض يناقشون «هل يجوز للمرأة تصفح الإنترنت دون محرم»! بدأ العالم يطوي صفحة الإنترنت بشكلها القديم ويتركنا فيها مع هذا الجدل العقيم، وينتقل لثورة جديدة تفتح آفاقا واسعة للبشرية، أفرادا وجماعات، للتحكم أكثر بمصيرها. أعطى الاقتصاد الرقمي للمرة الأولى في التاريخ الحديث الدول الفقيرة والغنية فرصا متكافئة في المشاركة في خلق القيمة المضافة، إذ إنه لا يعتمد على عملية التراكم الرأسمالي أو حتى تراكم الخبرات، بل كل ما يحتاجه هو المعرفة والابتكار. فما تحتاجه لابتكار تطبيق للهواتف الذكية هو «الفكرة»، وتستطيع بنفسك تحويل هذه الفكرة لتطبيق عبر التعلم الذاتي من خلال دورات منتشرة على شبكة الإنترنت بكل اللغات، وقد تتفاجأ إذا قلت لك إنك لا تحتاج سوى بضع ساعات من التعليم الذاتي والتنفيذ ليصبح تطبيقك متاحا للاستخدام على متجر التطبيقات! وقد تصبح قيمته ملايين الدولارات إذا كانت فكرة التطبيق تؤدي خدمة يحتاجها الأفراد، أو تخلق حاجة لديهم لاستخدامه. فشركة أوبر للنقل التي أصبحت قيمتها مليارات هي مجرد تطبيق على الإنترنت. وشركة أمازون العملاقة هي مجرد موقع إلكتروني بالنهاية. انقطعت في الفترة الماضية عن كل شيء تقريبا، للقراءة والبحث في الثورة القادمة التي ستغير وجه العالم، في تعميق جذري لما فعلته شبكة الإنترنت. إذ لا تشكل هذه الثورة الجديدة قطيعة مع الإنترنت، بل تؤسس عليها وتمضي بها بعيدا أكثر من قدرتنا على التخيل. كما فعلت شبكة الإنترنت نفسها إذ تأسست على شبكات وسائل الاتصال التي سبقتها، وقدمت لها إضافات ثورية. إذاً فالابتكار الثوري الذي أطلق عليه BlockchainTechnology أو تقنية البلوكشين، أو ما يمكن تعريبه «تقنية الكتل المتسلسلة»، هو نوع جديد من الإنترنت. لم يعد الأمر مجرد أبحاث ومشاريع، بل أصبح حقيقة ماثلة، وينتشر في العالم كالنار في الهشيم، ويتسابق الأفراد والشركات والدول للاستثمار فيه، وتعقد حوله المؤتمرات وحلقات البحث والدراسات. لكن ما هذه التقنية الجديدة؟ يمكن القول إن مفهوم «البلوكشين» هو أكثر عمقا من مجرد اختزاله إلى البعد التقني، أي اختزاله لتطبيقاته المباشرة، فالفلسفة الكامنة خلف هذا المفهوم هي «اللامركزية» الإدارية، حيث يصبح التعامل بين الأفراد مباشرا فردا لفرد، دون الحاجة لوسيط مركزي! سأحاول في هذا المقال تقديم تعريف مختصر للقارئ غير المتخصص لهذا الابتكار لأنه يمس حياة الجميع دون استثناء، والمصادر العربية المعتبرة حوله تكاد تكون معدومة، ويعاني المرء صعوبة حتى في ترجمة المصطلحات التي ولّدها هذا الابتكار. في كتابهما «ثورة البلوكشين» الصادر في عام 2016 عرّف دان وأليكس تابسكوت هذا الابتكار الجديد المسمى بلوكشين، بأنه «سجل حسابات رقمي محصن بشكل تام (ومعلن ومفتوح) للعمليات الاقتصادية، يمكن برمجته لتسجيل ليس فقط العمليات المالية، بل كل شيء ذي قيمة»! حسناً لنبسط هذا التعريف دون الخوض في الجانب التقني عبر المثال التالي: في القرى الصغيرة لم يكن هناك سجل عقاري لتسجيل المنازل، كل سكان القرية يعرفون مالك كل منزل. لا يمكن لشخص أن يدّعي دون وجه حق أنه يمتلك منزل شخص آخر، سيسخر منه السكان الآخرون. وإذا حصلت عملية بيع لمنزل في القرية سيعرف كل سكان القرية بعد قليل أن ملكية المنزل انتقلت لمالك جديد، ويحدثون «النسخة المحفوظة في» ذاكرتهم لسجل الملكية بعد عملية البيع. وفي حال جاء قادم غريب إلى القرية وسأل عن منزل أحد السكان سيرشده أي فرد من السكان إلى هذا المنزل. إذاً هذا سجل لا يمكن تزويره لأنه «مسجل» بشكل معلن في ذاكرة جميع سكان القرية. إضافة إلى ذلك فهو مجاني، فأنت لا تدفع شيئا للسكان ليسجلوا ملكية المنزل في ذاكرتهم! لكن مع تطور المدنية الحديثة، أو في المدن هناك سجل عقاري فيه جيش من الموظفين، مهمته تسجيل ملكية المنازل، وبموجب هذا السجل تحدد ملكية كل منزل، لكن السجل العقاري قابل للتزوير، وهذا يحدث دائما، أي أن يقوم شخص بعملية تزوير لعقد بيع أو أي نوع من الثبوتيات أو بالتواطؤ مع موظف أو أكثر في السجل العقاري ويسجل منزلا لشخص آخر باسمه، ويحصل دون وجه حق على صك ملكية للمنزل. كذلك عند تسجيلك ملكية منزل في السجل العقاري تحتاج أن تدفع كلفة لهذا التسجيل، ناهيك عن الإجراءات والوقت الذي تستغرقه عملية التسجيل. في حالة القرية لم يكن هناك سجل مركزي للملكية، بل كان التسجيل علنا في ذاكرة السكان، لذلك يستحيل تزويره إلا إذا تواطأ الجميع، وهذا يكاد يكون مستحيلا، بينما السجل العقاري هو وسيط مركزي لتسجيل الملكية، لذلك يمكن إجراء عمليات تزوير في هذا السجل. البلوكشين تعيدنا للسجلات المعلنة المفتوحة التي يحتفظ الجميع بنسخة منها، لكن هذه المرة ليس في الذاكرة البشرية، بل في ذاكرة تقنية مشفرة هي الكتلة Block، ومثل سكان القرية جميع المتصلين بهذه الكتلة يعرفون أنك مالك محتوى هذه الكتلة والمخول بإجراء تعديل عليه، وأي تعديل في سجلها من شخص غير مخول سيرفض. وفي حال نقل الملكية يُعلم الجميع بهذا التغيير، بل يمكن تضمين كل شروط عملية التعاقد بين الطرفين لتطبق بشكل آلي حتى لو كانت مستقبلية. أي أنه وللتبسيط يمكن أن نـحدد تاريخا مستقبليا لانتقال الملكية في السجل أثناء إثبات التعاقد، بعد سنتين مثلا، فيحدث الانتقال في التاريخ المحدد دون تدخل من أحد. ما تطبيقات هذا الابتكار؟ يمكن تطبيق هذا الابتكار على كل أنواع السجلات، من العقارات إلى الأحوال الشخصية إلى التحويلات المالية إلى العقود الآنية والآجلة! وسيلغي هذا الابتكار دور «المركز» أو الوسيط في كل المعاملات. على سبيل المثال نـحن نحتاج البنوك لإجراء التحويلات المالية، فهي تحتفظ بأموالنا في سجل مركزي تسجل فيه كل العمليات التي قمنا بها، وتتقاضى رسوما لأنها تقوم بمسألتين أساسيتين، حفظ أموالنا والقيام بدور الوسيط الضامن بين الأطراف في التعاملات المالية، وحتى تصل الأموال للطرف الآخر نكون قد قمنا بسلسلة من العمليات، لكن أيضا يجب ألا ننسى أن هذه البنوك معرضة للإفلاس كما يحدث دائما وتتبخر حينها أموالنا. عبر التقنية الجديدة سيلغى دور البنك ويصبح بإمكانك أن تحتفظ بأموالك بمحفظة رقمية على هاتفك أو حاسبك الشخصي أو وحدة تخزين بيانات خارجية صغيرة! وسيكون بإمكانك تحويل الأموال مباشرة لأي شخص من محفظتك لمحفظته دون المرور بأي وسيط! تماما كما يحدث عندما تسلم شخصا أموالا نقدية باليد فتنتقل ملكيتها بالحيازة، وستكون وحدك المسؤول عن حماية هذه الأموال وإجراء أي عمليات تمسها، وسيتم اختصار سلسلة العمليات المالية للتحويل إلى عملية واحدة. وفقا لهذا الابتكار سيختفي الشكل الحالي للبنوك وشركات تحويل الأموال ومنصات بيع السلع والمنتجات والخدمات بالوساطة، باختصار كل المنصات والمراكز التي يقتصر دورها على تسجيل العمليات وحفظها، أو الوساطة أو ضمان شروط العقد بين «طرفين»، ويصبح التعامل مباشرا ندًّا لـ«ند»، أو باللغة الإنجليزية Peer to Peer. هذا ليس خيالا علميا، هذا أصبح قائما، وهناك منصات أنشأت لتداول تطبيقات هذا الابتكار اقترب حجم تداولاتها من التريليون دولار! هذا والعالم لا يزال في أول الطريق لتطبيقات هذا الابتكار، ويناقش البنية القانونية والتشريعات اللازمة لمأسسته. فدولة مثل هندوراس تبنت هذه التقنية للسجل العقاري، ودخلت كبرى شركات التقنية المعروفة بقوة ميدان الاستثمار فيه. هذه دعوة ملحة للدول العربية التي لا تزال قائمة ومتماسكة ألا تفوت هذه الفرصة وتسرع في تبني هذا الابتكار وتؤسس البنية القانونية له، وتستثمر فيه تعليميا وماديا وماليا، ليس لأنه بوابة المستقبل دون شك، بل لأنه أيضا يخفض التكاليف الحكومية في كل ما يتعلق بالسجلات لما يقارب الصفر ويجعل الفساد معدوما! إضافة لأن تطبيقات هذا الابتكار ستكون مصدر دخل مهول سيفوق النفط في القريب العاجل. ملاحظة: ابتعدت في هذا المقال متعمدا عن الربط الشائع بين هذا الابتكار والعملات الرقمية المشفرة التي كانت أول تطبيق عملي له، وذلك للتأكيد على أن هذا الابتكار، وإن ارتبط شيوعه بالعملات الرقمية، فهو أوسع بكثير منها، وأن العملات الرقمية ما هي إلا قمة جبل الجليد الذي نراه يطفو على السطح. وسأخصص مقالا منفصلا عن مفهوم العملات الرقمية الوليدة.
مشاركة :