ما هي مشكلة الإعلام العربي؟ وما هو تحديه الأكبر؟ سقطت الحواجز واختفت الحدود بفعل الثورة المعلوماتية. ولا يزال كثيرون من الإعلاميين العرب ينتحبون ويشكون، ويعلّقون تقصيرهم على مشجب الحكومات والأنظمة. نعرف أن الحكومات ليست مليئة ببشرٍ يشبهون الملائكة. وندرك أن حبل الودّ ليس موصولاً بين السلطة الأولى والسلطة الرابعة. ليس فقط في هذا الحيز الجغرافي الممتد من المحيط إلى الخليج، وإنما حيثما اجتمع أهل سياسة وأهل إعلام. فالسياسة كانت، ولا تزال، وستبقى، مرتبطة بالسلطة والقوة والنفوذ. وفي ما عدا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، لا يمانع السياسي، بل يتمنى، لو أمكن له إبقاء الإعلامي خادماً في بلاطه، وفي أحسن الأحوال، عصفوراً جميلاً في قفصه. لا فرق في هذا بين سياسيٍ يبحث عن مصلحة الوطن، وسياسيٍ يختزل مصلحة الوطن في مصلحته. فالكل يعرف دور الإعلام الخطير في تحقيق هذه المصلحة أو تلك. والكل يتمنى لو أمكنه توظيف الإعلام لذلك، من دون كثير عناء. بعيدا عن المشاغبات و «وجع الرأس». على رغم هذا، يخطئ الإعلامي العربي الذي يرغب في وضع مسؤولية تقصيره، كاملةً، على أكتاف المسؤول العربي. ما حقيقة المشكلة إذاً؟ ثمة حديثٌ كثيرٌ عن الفساد والرشوة والمحسوبية. فهل يمكن تلخيص المشكلة في تلك المسائل حصراً؟ لا نعتقد ذلك. فكما هو الحال في كل مكان من هذا العالم الواسع، يوجد في عالمنا العربي إعلاميون يحترمون أنفسهم، ويحترمون مهنتهم، ويحترمون جمهورهم. وهؤلاء «يناورون» بجهدٍ ومهارة لإبقاء جذوةٍ للحقيقة مشتعلة، على رغم تحديات تبدو أحياناً مستحيلة. ليس هذا مقام شعارات ولافتات من نوع صحافيين «شرفاء وأطهار ومناضلين». فإصدار مثل هذه الأحكام يعني امتلاك القدرة على قراءة السرائر. وثبوتها أو نفيها متروك لصفحات التاريخ أولاً وأخيراً. وإنما يكفينا، في هذا الواقع العربي الصعب، وجود إعلامي يثبت من خلال عطائه، مرةً تلو أخرى، أنه يحترم نفسه ومهنته وجمهوره. وهؤلاء، على قلّتهم، موجودون، ليس في الأمر أدنى شك. لهذا، وعلى رغم حساسية وخطورة مشكلة الفساد المستشرية، تبقى المسألة أكبر من حصر تفسيرها في عامل وحيد. تساعدنا لفهم الظاهرة العودة قليلاً إلى الوراء. هناك نرى كيف تضخّم الإعلام العربي سَرَطانياً، في وقت قصير، وبشكل لم يكن فيه مؤهلاً لاستيعاب الكمّ الهائل المطلوب من الكوادر المحترفة المدربّة المؤهلة للعمل في مثل هذا القطاع الحساس. فمنذ عقدٍ ونيّف، كان هذا الشيء الذي نطلق عليه «الإعلام العربي» يقتصر على حفنة لا تتجاوز المئات من الأشخاص. هذا إذا أدخلنا في الحسبة العاملين في المجال التقني من التحرير والتصوير إلى الإنتاج والإخراج، وما بينهما من وظائف. ويعرف القاصي والداني خلفية أولئك الذين كان «مسموحاً» لهم تصدُّرُ منابر الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية لتقديم الرأي والمعلومة. أما المؤكد، فهو أن الاحتراف المهني كان آخر شرطٍ فكّر فيه من سمح لهم بتصدّر تلك المواقع. ماذا يعني هذا؟ أنّ من يُفترض فيهم الوصول إلى مقام «أهل الصّنعة» الأصليين، كانوا، عملياً، أبعد الناس عن إتقانها، بمقاييسها العالمية المعروفة. ثم إن زمن الانفتاح هبط على العرب هبوط الصاعقة. فتوالدت المنابر الإعلامية العربية كالأرانب. وخلال سنين قليلة، أصبح الإعلام، كمياً على الأقل، صناعة عربية ضخمة تحتاج آلافاً مؤلفة من الإعلاميين المتخصصين في كل مجال. لكن هذا كان أشبه بالمستحيل، في عالمٍ عربي كان يخاف أحياناً من مجرد وجود كليات للإعلام فيه. وفي ثقافةٍ شعبية كانت تنبذ يومها، وهي على حق، من يفكر بالعمل في مجال الإعلام. لأن ذلك المجال كان يمثل، في أعماق الإنسان العربي، مجال الزيف والنفاق للسلطة، لا أكثر ولا أقل. على رغم هذا، كان لا بد من ملء كل هذا «الفراغ» الذي خلقته مئات المجلات والجرائد والإذاعات والفضائيات العربية التي أتخمت المنطقة. من هنا انفتح الباب على مصراعيه، وأصبح الإعلام العربي، فجأة، ساحةً لعمل من لا يجد عملاً، ومصدراً لرزق من لا يملك سبيلاً آخر للرزق. ففي حين يحتاج مجال الطب لحَمَلةِ شهادات طب، ويحتاج مجال الهندسة لمهندسين، ومجال التعليم لمعلمين، أصبحت ساحة الإعلام العربي مشاعاً لكل من هبّ ودبّ. ووجدت ثقافة المحسوبية والشللية والواسطة في ذلك المجال مرتعا لها تُبدع فيه، في شكل لا تستطيعه في أي مجال آخر. وشيئاً فشيئاً، امتلأ الوسط الإعلامي بنماذج فضائحية تُحسب قسراً على الإعلام وأهله. وساعد على تغطية تلك العورات شيوعُها، إلى درجةٍ أصبحت فيه هي القاعدة، مثل الشذوذ الذي يصبح طبيعياً في أعين الناس لكثرة الممارسة والتكرار والإلفة. صحيح أن زمن الانفتاح فجّرَ في العالم العربي طاقات إعلامية كانت مكبوتة في زمن الصمت والانغلاق. وصحيح أن هذا الزمن ساعد على ظهور مؤسسات إعلامية عربية بدأت تقترب من المقاييس العالمية. لكن هذه المؤسسات وأولئك الإعلاميين ظلوا يمثلون «الاستثناء» في محيط إعلام عربي صاخب، مفعم بالفوضى والضجيج، فضلاً عن الارتكاس الذي أصاب كثيراً من المؤسسات والإعلاميين بعد ذلك. وها نحن اليوم، أمام واقعٍ تتردد فيه الشكاوى التي نسمعها عن الإعلام العربي، ويتصاعد معه الحديث عن ضعفه وقصوره في كثير من المجالات. يحصل هذا في خضم ظروف إقليمية حساسة تتطلب حضوراً عربياً إعلامياً يحفظ وحدة الأوطان وكرامة الإنسان، ويساعد على ترسيخ الأمن والاستقرار. قيل الكثير حول الموضوع. لكن الحقيقة تفرض نفسها في نهاية المطاف. فلو أن الإعلام العربي كان صنعةً محترفة، لو كان إعلاماً يحترم نفسه وجمهوره، لاستطاع أن يواجه التحديات المفروضة عليه. أو لتمكن على الأقل من أن يقوم بمهمة أفضل من تلك التي يقوم بها حالياً بكثير. وهذا شأنٌ يجب أن ينتبه إليه، بعمقٍ وجدية، أصحاب العلاقة من صناع السياسة. ويعملوا على إصلاحه قبل فوات الأوان. * كاتب سوري
مشاركة :