الفن بين الخلق والمحاكاة بقلم: أبو بكر العيادي

  • 9/14/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

المبدع حين ينتج أثرا فنيا إنما يُجمّع أنواعا من المحاكاة مستمدة من الواقع المعيش، ومن أعمال سابقيه، فيخلق من تلك الأنواع كلّا متجانسا، يسمه بميسم شخصيته وفكره وإلهامه، ليجعله أثرا فريدا.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2017/09/14، العدد: 10751، ص(15)] تعرّف المعاجم الخلق بكونه عملية استخراجٍ من عدم، وإنتاجٍ من لا شيء، وتأسيسِ شيءٍ لم يكن موجودا من قبل، فيغدو الخلق بهذا المعنى إنشاء على غير مثال. بيد أن الفلاسفة اختلفوا حول هذا المفهوم، لأن الخلق من عدم في رأيهم لله وحده، أما الفن فهو مجرد تقليد للواقع، كما ذهب إلى ذلك أفلاطون حينما اعتبر الفن تمثُّلاً لتمثُّلٍ، بمعنى تصوير للمظهر، ومحاكاة للشيء دون اهتمام بجوهره. وقد عارضه أرسطو حين أكّد أن الفن، بفضل المحاكاة، يمضي أبعد من الواقع وينحو إلى المثالية، ما يتيح له أن يُظهر الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه الأشياء. ولكن أرسطو يحصر المحاكاة في الطبيعة بتجلياتها وكائناتها الحية والجامدة في إهابها الخارجي، والحال أن الطبيعة، في معناها الواسع، يمكن أن تشمل الإنسان وفكره ووجدانه وانفعالاته، فلو اكتفينا بمظهرها المادّيّ لكانت الأعمال الفنية متماثلة أو تكاد. أما المحدثون، فينظرون إلى الفن كوسيلة لخلق شيء جديد، هو نتاج فكرنا، وثمرة تأملنا، وحصيلة رؤيتنا للعالم، أي أننا ننفصل عن الطبيعة الأم، بفضل موقف نقدي مما حولنا، فـبالفكر، يقول هيغل، نتغلب على العالم الذي كان يملكنا، ونصنع من الواقع واقعنا. وهو ما عبّر عنه الرسام إدغار ديغا في قوله: “الفن ليس شكلا، بل هو الطريقة التي نرى بها الشكل”. ولا تقتصر المحاكاة على الطبيعة وحدها، بل يمكن أن تشمل تقليد الآخرين في أسلوبهم ورؤيتهم الفنية. ولما كان التراث تراكما، فليس من المستبعد أن نجد لدى هذا المبدع أو ذاك آثارَ ماضٍ تتجلى في أوجُهٍ من المحاكاة لمنجزات سابقة نهل منها المبدع، وفي بعض الأحيان تفرضها عليه شروط انتمائه إلى إحدى المدارس الفنية. بل إن ثمة من النقاد من يعتبر حتى القطع مع ذلك الماضي نوعا من التواصل معه، لأن القطع لا يكون إلا مع سابقٍ يشكّل اللاحقُ نقطة انفصال عنه، ومرآة له. ولذلك قيل إن الكتابة هي في الواقع إعادة كتابة، وإن المبدع حين ينتج أثرا فنيا إنما يُجمّع أنواعا من المحاكاة مستمدة من الواقع المعيش، ومن أعمال سابقيه، فيخلق من تلك الأنواع كلّا متجانسا، يسمه بميسم شخصيته وفكره وإلهامه، ليجعله أثرا فريدا. كذا دانتي في “الكوميديا الإلهية” وثربانتس في “دون كيخوته” ودانيال ديفو في “روبنسون كروزو”، فقد تركوا لنا آثارا خالدة، رغم كونها مستوحاة من عيون الثقافة العربية الإسلامية. يقول بودلير: "الطبيعة ليست سوى معجم يغرف منه الفنان عناصر ليؤسس خلقه الخاص". كاتب تونسيأبو بكر العيادي

مشاركة :