التاريخ يقول لنا إن الأدب التونسي الحديث نشأ في الفضاءات المفتوحة، وإن الذين صنعوا مجده هم من عاشوا الحياة في مختلف تجلياتها، وعركتهم التجارب المريرة.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2018/02/13، العدد: 10899، ص(14)] خلال ندوة أدبية انتظمت أواخر العام الماضي احتفاء بمرور 100 عام على ميلاد الكاتب التونسي البشير خريف، قال أستاذ جامعي معروف إنه لم يهتم بأعمال هذا الأخير إلاّ بعد وفاته. والآن هو يعتزم إصدار كتاب عنه مثلما فعل مع الشابي، ومع آخرين. وجميع من ذكرهم كانوا من الأموات. ولعله أراد أن يلمـّح من خلال كلامه هذا إلى أنه ليس معنيّا بالأحياء من الكتاب والشعراء. وهذا كان ولا يزال حال جل الجامعيين التونسيين. ففي العديد من التظاهرات والندوات، هم يتعمّدون إظهار احتقارهم للأدب التونسي في جميع وجوه تعابيره، قصة كان أم شعرا أم رواية. ومنذ نشوء الجامعة التونسية منذ أزيد من ستين عاما، هم مواظبون على إقصاء هذا الأدب من اهتماماتهم، ومن بحوثهم. الجامعي الوحيد الذي انكبّ على دراسة الأدب التونسي، والعناية به هو الدكتور فريد غازي الذي توفي سنة 1962، عن سن تناهز 33 عاما، تاركا فراغا هائلا لم يتمكن أي جامعي من مجايليه أو من الأجيال اللاحقة، من ملئه. وبسبب تحمسه للأدب التونسي، متمثلا في جماعة “تحت السور” التي برزت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي لتكون أول حركة ثقافية وأدبية طلائعية، أثار غازي حفيظة زملائه الجامعيين فحاربوه، وهمّشوه، وأقصوه من حلقاتهم المغلقة بطبيعتها. كما يعود إليه الفضل في الدفاع عن رواية البشير خريف “حبك درباني” التي انتقدها زملاؤه في الجامعة بسبب استعمال صاحبها للهجة الدارجة في الحوار. لذا ظلت متروكة في أدراج كاتبها سنوات طويلة قبل أن يتمكن من إصدارها. بعد رحيل غازي، حاول بعض الجامعيين مواصلة وتعميق العمل الذي كان يقوم به، إلاّ أنهم اصطدموا بعقبات كأداء أجبرتهم على العزوف عن دراسة الأدب التونسي، والتعريف برموزه. وحدهم الأموات وجدوا لأنفسهم حظوة داخل الجامعة التونسية. لذلك سُمح للطلبة بإعداد أطروحات عن الشابي، وعن جماعة “تحت السور” رغم تمرد هذه الجماعة على التصنيفات الجاهزة. أمّا البشير خريف، وهو أهم روائي تونسي في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد ظلت أعماله مُهملة، ومتروكة في الظل لعقود طويلة. فلما توفي انقضّ عليه بعض الجامعيين ليحوّلوا أعماله إلى “حديقة خاصة” بهم وحدهم، فيها يرتعون ويمرحون بحسب أهوائهم. بالإضافة إلى هذا دأبت الجامعة التونسية على عدم الاعتراف بمن خدموا الثقافة والأدب التونسيَّيْن بإخلاص ووفاء. فقد تفضّل الباحث الكبير الراحل أبوالقاسم محمد كرو الذي يعود إليه الفضل في نفض الغبار عن آثار أبي القاسم الشابي، بإهداء مكتبته إلى جامعة منوبة غير أن هذه الجامعة اكتفت بشكره بطرف اللسان، ولم تتكرم عليه باحتفال تكريمي للتعريف به وبآثاره لدى الأجيال الجديدة. كما أن أقسام علم الاجتماع في جل الجامعات التونسية لم تظهر أي اهتمام ببحوث ودراسات قيّمة أنجزت خارج الإطار الجامعي والأكاديمي عن جوانب مختلفة من خصائص المجتمع التونسي. فقد درَسَ الراحل محمد المرزوقي طبائع بدو الصحراء، وعَرّفَ بتقاليدهم، وبأدبهم الشعبي، وببطولاتهم أثناء النضال ضد الاستعمار الفرنسي. كما يعود إليه الفضل في كتابة السيرة الهلالية بحسب الطريقة التونسية. ويمكن اعتبار كتاب “الأغاني التونسية” للصادق الرزقي قاموسا ثريا عن العادات والتقاليد في مختلف مناطق البلاد التونسية. إلاّ أن هذا الأثر الرائع يكاد يكون مجهولا لدى أساتذة علم الاجتماع، ولدى طلبة هذا القسم. وهذا هو حال العديد من البحوث والدراسات الأخرى المركونة في الزوايا المعتمة والمغبرة، أو هي تباع بأثمان بخسة في سوق الكتب القديمة بالعاصمة. وخلال السبعينات من القرن الماضي، أدرج الأستاذ محمد مزالي الذي كان آنذاك وزيرا للتربية والتعليم نصوصا شعرية ونثرية لكتاب وشعراء معاصرين في برامج التعليم الابتدائي والثانوي. وهكذا تمكن تلاميذ تلك الفترة من التعرف على أدباء وشعراء كانوا لا يزالون على قيد الحياة أمثال العروسي المطوي، ومحمد صالح الجابري، ومصطفى الفارسي، وآخرين من خلال آثارهم. إلاّ أن تلك التجربة لم تتكرر. ورغم أن هؤلاء رحلوا عن الدنيا، فإن نصوصهم لا تزال مدرجة في البرامج المدرسية. لكأن تونس لم تنجب غيرهم. ولن يظهر أي أديب أو شاعر يحقّ له أن يكون معروفا لدى الأجيال الجديدة. إنّ التاريخ يقول لنا إن الأدب التونسي الحديث نشأ في الفضاءات المفتوحة، وإن الذين صنعوا مجده هم من عاشوا الحياة في مختلف تجلياتها، وعركتهم التجارب المريرة، والمحن القاسية، واجترحوا الكلمات العذبة من جراحهم، وأوجاعهم. وجميع هؤلاء تمردوا على كلّ الأساليب التي ترمي إلى تدجينهم وترويضهم، متحدين كل القيود التي تستهدف حرياتهم، وحبهم الجنوني للحياة، وللكلمة الصادقة والصادمة. هكذا كان الشابي، وجماعة “تحت السور”، والبشير خريف، ورضا الجلالي، وأولاد أحمد، وحسين القهواجي، وآخرون. وهكذا هم الأحياء الذين يمثلون راهنا الصورة المشرقة للثقافة التونسية. إلاّ أن الجامعيين والمؤسسات التربوية يتصرفون وكأنه لا وجود لهم، ولا أهمية أو قيمة لأعمالهم. فإذا ما سئلوا عنهم، هزوا أكتافهم، وأجابوا “ليس عندنا راهنا في تونس أديب أو شاعر يستحق الاهتمام”. كاتب تونسيحسونة المصباحي
مشاركة :