وسط الاحتفال بالذكرى السابعة عشرة للتصويت على ميثاق العمل الوطني، لا بد أن نستذكر أن مملكة البحرين قد خطت خلال السنوات الماضية، خطوات مهمة على طريق الإصلاح السياسي، تحققت طموحات كثيرة على أرض الواقع، وبقيت آمال أخرى، بانفتاح آفاق جديدة متنامية في إطار رؤية قوامها التوسع التدريجي في المشاركة الشعبية، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، وتطور حرية الصحافة، فعاشت بذلك مخاضًا سياسيًا، تمخضت عنه ولادة مجلس نيابي منتخب يُمارس سلطاته التشريعية، وعلى الرغم من الاختلاف حول مستوى أداء هذا المجلس، ومدى فاعليته واقترابه من نبض الشارع إلا أنه يمثل علامة واضحة في عهد الإصلاح السياسي للبحرين، وانبثقت جمعيات العمل السياسي والاجتماعي، ضمن قانون يكفل عملها، وصار لها حضور مؤثر، بالرغم من ان بعضها لم يرغب في دخول البرلمان في البداية، ثم أخذت تتراجع شيئًا فشيئًا عن موقفها، كي لا تكون خارج الساحة السياسية المؤثرة، بعد فشل نهج المقاطعة، وأكدت التجربة التشريعية الوليدة، أن احد أهم عوامل نجاحها هو مقدار التعاون الإيجابي والتواصل البناء بين السلطتين التنفيذية والتشريعية على جميع المستويات، وقد كان هذا واضحًا في العديد من الملفات، خاصة فيما يتعلق بالتشريعات الجديدة، وفي نمو وتطور الميزانية وتحقيق مكاسب كبيرة للمواطنين على صعيد الخدمات، كما كانت مؤسسات المجتمع المدني والصحافة الأكثر استفادة من مساحة الحرية الكبيرة التي كانت احد ثمار التحول التدريجي نحو الديمقراطية. ولكن - وفي الوقت الذي كانت فيه المسيرة الإصلاحية تتجه قدما نحو أفق الديمقراطية - انفجرت زوابع الأحداث في فبراير 2011م، والتي رافقها شروخ وأوجاع، انعكست على العلاقات الاجتماعية والسياسية، اكتشفنا فجأة، ومن دون مقدمات أن الجهود التي بذلت خلال الفترة الفاصلة بين التصويت على ميثاق العمل الوطني في 2001م وحتى اندلاع تلك الأحداث المؤسفة، وكأنها لم تكن موجودة أصلاً في نظر البعض، على الرغم من أهميتها في الإصلاح السياسي في اتجاه البناء الديمقراطي في البحرين، في الوقت الذي كانت فيه ورشة الإصلاح السياسي الاقتصادي والتشريعي، قائمة على قدم وساق وحققت نتائج مهمة على أكثر من صعيد، حيث كانت البحرين قد وضعت لها رؤية اقتصادية تنموية طموحة، لتعزز بها الإصلاح السياسي، واستكملت العديد من التشريعات المنظمة للحياة السياسية وارتفاع المؤشرات التنموية في أغلب أوجهها بشهادة التقارير الدولية. لقد كانت أحداث ما سمي بالربيع العربي وتفاعلاتها في عدد من البلدان تلقي بظلالها على البحرين، أو هكذا أرادتها بعض القوى في المعارضة أن تكون، بالرغم من أنه لم يكن هنالك ما يوحي بحدوث احتجاجات كبيرة على الوضع السياسي، والذي كان يسير في طريق الإصلاح بشكل واضح لا لبس فيه، ولا خلاف على أولوياته الأساسية تقريبا. فالمعارضة الرئيسية كانت متواجدة بشكل شرعي في عدة جمعيات سياسية، وكانت تستحوذ على أكثر من 40% من مقاعد البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب. كما كانت الانتخابات البلدية تُجرى بشكل دوري في مواعيدها ويصل إلى مقاعدها عدد كبير من المحسوبين على المعارضة. وكان العمل من خلال المؤسستين فعالا ويؤتي أكله على الصعيد الفعلي. ووسط هذه المفاجأة، حدث ما يشبه الارتباك داخل مكونات المجتمع السياسي في التعاطي مع هذا التحول غير المتوقع. خصوصا في ضوء رفع سقف المطالب الذي بلغ حد «الإعلان عن جمهورية» من قبل بعض أركان المعارضة، وضوء الشعارات التسقيطية، وفي ضوء الأحداث التي رافقت تلك الاحتجاجات التي اتخذت طابع المحاولة الانقلابية على الدولة وثوابتها. ووسط هذا الوضع السياسي، انتشرت حرب إعلامية مفتوحة، بلغت ذروتها في شعارات وكتابات وتصريحات كرست النظرة العدمية التي اتسم بها خطاب أغلب المعارضة، في لحظات اتسمت بالغرور والاستعلاء، واعتبار كل ما أنجز خلال عشر سنوات من الإصلاح من «دون قيمة». ورأينا وقرأنا ما كان يكتبه يوميا عدد من الموتورين، ممن سيطرت على عقولهم الولاءات الطائفية العمياء، فأبدوا مواقف غريبة وغير مقبولة أو مفهومة من القضايا المصيرية. فانتشر التزييف على حساب الحقيقة، والتهييج على حساب العقلانية. مما مهد لظهور عوارض عن انحطاط مستوى التخاطب، من خلال تبادل الاتهامات، واستخدام معجم البذاءة والحط من القيمة الإنسانية للأشخاص، بدلا من التوجه إلى نقد الأفكار بتجرد ونزاهة.. ووسط هذا الانفلات الإعلامي والسياسي، كانت هنالك بعض الأصوات العاقلة التي تنشد بصعوبة بالغة مساحة للحل والحوار والتوسط والوحدة والمصالحة، من أجل تعزيز وحدة المجتمع وضمان عيشه المشترك، وجعل الديمقراطية ذهابا نحو المستقبل، ومن أجل الدفاع عن الحق دون تحامل، وجعل المصلحة الوطنية بوصلة التحكم في جميع المسارات. ولذلك فأية مراجعة جادة وموضوعية ومنصفة لتلك الأحداث المؤلمة، لا بد أن تقوم على طرح «أسئلة الجمر والنار»: أسئلة المراجعة من أجل إدارة حوار هادئ، لطي صفحة الأحداث، والتقدم نحو أفق الحل الوطني، لتعزيز التجربة الديمقراطية التعددية وقيم ومفاهيم المساواة في المواطنة في ظل دولة مدنية وطنية يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، دولة فيها تنمية مستدامة وتكافؤ فرص، ورقابة وشفافية، ولا مكان فيها للطائفية أو التعامل مع الخارج على حساب الوطن وسيادته، بما يتطلب في النهاية: اتخاذ خطوات لتعزيز الثقة المتبادلة بين الأطراف السياسية المختلفة، واتخاذ عدد من الإجراءات المتبادلة والمتزامنة من كافة الأطراف المختلفة، بحيث تكون هذه المبادرات والإجراءات المعززة لثقة مترابطة ومتكاملة ومتزامنة في تنفيذها، بما يؤدي تدريجياً إلى الحد من التوتر، و(التوقف عن ممارسة العنف بكافة أشكاله، وضرورة احترام القانون والدستور والثوابت الوطنية الجامعة التي أجمع عليها المجتمع خلال تصويته على ميثاق العمل الوطني)....الخ. وكذلك الحد من التجاذبات السياسية، بين مختلف الأطراف، بما من شأنه أن يساعد على التقدم نحو تحقيق الأهداف المشتركة، مثل التوقف عن تبادل الاتهامات السياسية، بحيث يكون هنالك ما يشبه الميثاق الأخلاقي الذي يتم التوافق حوله من خلال تجديد الحوارات المفتوحة. والمرور مباشرة إلى ما هو جوهري في الإصلاح السياسي السلمي الذي يكون استكمالا لمسيرة الإصلاح التي بدأها جلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه، مع مطلع الألفية الثالثة، وذلك بالعمل على طي ملف الأحداث المؤسفة وتبعاتها ونتائجها بتسوية الأوضاع المترتبة عليها والاتفاق على محورية قضية الحرية ومدنية الدولة والمواطنة المتساوية والعدالة وحقوق الإنسان. مناقشة ملف تطوير النظام السياسي وفقا لمبادئ الإصلاح التدريجي الهادئ الذي يجنب البلاد الهزات العاصفة بالاستقرار والتوازن الاجتماعي والتعايش السلمي. وإعادة النظر في قانون الجمعيات السياسية بتطويره ووضع الضوابط الواضحة والدقيقة لمنع إنشاء جمعيات سياسية على أساس ديني أو طائفي، ومنع تدخل رجال الدين في السياسة بشكل نهائي وحاسم، وتجريم المواقف والممارسات الطائفية في الحياة العامة. وإيجاد أفضل السبل للتقدم نحو المستقبل والتفرغ للتنمية والبناء الاقتصادي والاجتماعي. وعند الانتهاء من الاتفاق على هذه القضايا الجوهرية ومرجعياتها الثابتة في ميثاق العمل الوطني، بما يحفظ الوحدة الوطنية، يمكن وقتها الانتقال إلى التوافق على أفضل السبل والآليات لتجديد الحوار في سياق التوافق الوطني. ولا شك أن حلاً من هذا القبيل يتطلب شجاعة ضرورية للخروج من أفق الجمود، بما يساعد على السير في الطريق نحو طي ملف الأزمة، والتقدم نحو إعادة بناء حياة سياسية سليمة، يكون فيها للجميع دور إيجابي، بعيدًا عن المهاترات والقفزات والمزايدات التي لا تحتمل.
مشاركة :