التقيت صديقاً قديماً (ينتمي فكرياً إلى اليسار وسياسياً الى تحالف ما يسمى - تجاوزاً - بالقوى الوطنية الديمقراطية، فوجدته محبطاً من استمرار التحالف مع القوى الدينية الطائفية وسط زوابع الأحداث المؤلمة التي شهدتها البحرين وما رافقها من شروخ، انعكست على العلاقات الاجتماعية والسياسية بين مكونات المجتمع. وأثناء الحديث عن هذه الإشكالية قلت له: إن الخروج من هذه الورطة الكبرى هي المدخل الأول لإنقاذ ما بقي من اليسار من التآكل والاضمحلال - ليس سياسياً فقط بل وحتى فكرياً - خصوصاً بعد تداخل السياسي مع الطائفي في هذا الحلف غير المقدس. قال الصديق إنها بالفعل ورطة، وأي ورطة!! خاصة بعد أن استولى أصحاب النزعة الطائفية من المنتسبين لليسار شكلاً لا مضموناً على المواقع المؤثرة وسط اليسار، ولقد حاولنا أكثر من مرة الخروج من المأزق بالبحث عن شراكة مع القوى الوطنية التقدمية الديمقراطية الحقيقية فكر وأفقاً، ولكن يبدو ان الورطة استحكمت، حيث فقد الجزء الأكبر من اليسار قدرته على اتخاذ القرار، منذ اللحظة التي وضع مصيره بين يدي الزعامات الطائفية التي لا علاقة لها بالديمقراطية، واكتفى بدور السكرتاريا المتخصصة في تحبير البيانات والوثائق والاوراق قلت: الحمد الله إنكم أصبحتم تقولون ما كنا نقوله خلال السنوات ماضية من عمر الازمة التي تم افتعالها، إنكم في الخلاصة النهائية أوقعتم أنفسكم والمجتمع في مأزق، كمن يكتشف فجأة وبدون مقدمات أن الجهود التي بذلت خلال الفترة الفاصلة بين التصويت على ميثاق العمل الوطني في فبراير 2002م وقبيل أحداث فبراير 2011م - على أهميتها في الإصلاح السياسي في اتجاه البناء الديمقراطي في البحرين، كأنها لم تكن موجودة أصلاً في نظركم، مع انها كانت غنية جداً بالتطوير السياسي والاجتماعي والاقتصادي غير المسبوق، خصوصاً وأن ورشة الإصلاح كانت قائمة على قدم وساق وان البحرين قد وضعت لها رؤية اقتصادية تنموية (حتى للعام 2030) رؤية طموحة لتعزز بها الإصلاح السياسي، تحتاج لتنفيذها الى كل جهد وإلى كل فرد، والى الامن والاستقرار. ولكنكم ضربتم بعرض الحائط كل ذلك ولم تنتبهوا الى انكم ترتكبون خطأً قاتلاً بالمعيار التاريخي والإنساني، عندما عملتم على تخريب كل شيء، في ضوء اغراءات أحداث ما سمي - تجاوزاً - الربيع العربي وتفاعلاتها في عدد من البلدان التي القت بظلالها على المنطقة بأسرها، أو هكذا أرادتها قوى المعارضة أن تكون، بالرغم من انه لم يكن في البحرين تحديداً ما يوحي أو ما يستدعي حدوث احتجاجات عارمة وكبيرة على الوضع السياسي الذي كان يسير في طريق الإصلاح بشكل واضح لا لبس فيه بالرغم من وجود خلافات محددة حول بعض القضايا الدستورية والانتخابية - وكان الزمن كفيل بحلها - فالمعارضة كانت متواجدة بشكل شرعي في عدة أحزاب وكانت تستحوذ على 40% من مقاعد البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب، وكانت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع السياسي بل ومن السلطة، ووسط هذه المفاجأة الكبيرة، اشتغلت ماكنة الفوضى الخلاقة والقنوات الفضائية الإيرانية المنتشرة في كل مكان، والمنظمات المحسوبة على حقوق الانسان في إيقاع واحد ما لإثارة حالة من الارتباك العام، فكان سقف المطالب الذي بلغ حد الإعلان عن جمهورية في الدوار من قبل بعض أركان المعارضة، والشعارات التسقيطية والدعوات إلى الرحيل والانتقال ورفع المشانق والإعلان عن القوائم السوداء. وزادت الأحداث المؤلمة التي رافقت تلك الاحتجاجات المبرمجة والتي اتخذت في قمتها طابع المحاولة الانقلابية على الدولة وثوابتها وما استقر عليه الناس في ميثاق العمل الوطني، بدا واضحاً أن البلاد تتجه إلى مأزق الانقسام الاجتماعي والسياسي في ذات الوقت.. قال الصديق: اتفق معك في مجمل القول وان كنت اختلف معك في بعض التفاصيل مثل تجاهل نصيب السلطة من الأخطاء السابقة واللاحقة التي كان يمكن معالجتها، وخصوصاً السباب التي جعلت القوى الوطنية الديمقراطية (اللبرالية والتقدمية) تلجأ الى التحالف مع القوى المحافظة الطائفية التي هي اكبر عقبة كأداء امام التحول الديمقراطي، ولكنني اشعر بالحزن الشديد إزاء هذا الانقسام المؤلم التي رافقته حالة من الحرب الإعلامية المفتوحة بين الفرقاء، بلغت ذروتها في شعارات وكتابات التخوين المتبادل، أو في النظرة العدمية التي اتسم بها خطاب المعارضة، في لحظات الغرور والاستعلاء واعتبار كل ما أنجز خلال عشر سنوات من الإصلاح صفرا (مثلما اشرت انت في بعض مقالاتك وانا أوافقك الراي في ذلك إلى حد ما). قلت: هذا صحيح: لقد رأينا وقرأنا ما كان يكتبه كل يوم عدد من الحمقى ومتسولي الكتابة وباعة الكلام الموتورين، ممن سيطرت على عقولهم الولاءات الطائفية العمياء، حتى باتوا يبدون مواقف عدائية من القضايا الوطنية المصيرية؛ لأنها ببساطة تخالف ما درجوا عليه من قناعات سياسية أو طائفية ضيقة الأفق، فانتشر التزييف على حساب الحقائق والتهييج على حساب الرؤية العقلانية المتزنة. والأسوأ من ذلك بداية ظهور عوارض عن انحطاط أو تدنٍ في مستوى التخاطب، مثل (تبادل السباب والاتهامات المنحطة، واستخدام معجم البذاءة والحط من القيمة الإنسانية للأشخاص، بدلاً من التوجه إلى نقد الأفكار بتجرد ونزاهة). ولكن بعد هذه الخلاصة أود أن اسألك بصراحة سؤالاً واحداً وحيداً: هل أنتم تعتقدون حقيقة وبقناعة ان القوى الطائفية الظلامية يمكن ان تكون ديمقراطية او تقبل بالديمقراطية شكلاً ومضموناً وتنزل عند شروطها الفكرية والسياسية؟ هل لديكم كيساريين أي قناعة بأن مثل هذه القوى تكون مؤتمنة على الديمقراطية والحرية ومدنية الدولة والقبول مقتضيات المجتمع الديمقراطي؟ قال: بصراحة لا، بل انني اذكر ان عبارة الديمقراطية كانت كمصطلح تثير حساسية كبيرة عندهم، فينتفضون ضدها بشكل آلي، إلا انهم اضطروا الى استخدامها تكتيكياً للادعاء وكسب. قلت: لقد خسرتم في هذا التحالف مناعتكم وهويتكم، نتيجة التحاقكم التدريجي على صعيد المنوال التنموي، بالليبرالية الاقتصادية على صعيد المنظور الاقتصادي الاجتماعي، (انظر هنا وثيقة المنامة وبيانات الجمعيات المعارضة والتي تتضمن تأكيداً على اقتصاد السوق الذي كان دائما مثار تهجم اليسار) ومن جهة أخرى فقدتُم للمعايير السياسية بجعل التحالف مع التيار الديني الطائفي المثال الأعلى البديل لتحالف قوى اليسار التي بدت وكأنها لم تعد تمتلك مشروعاً سياسياً خاصاً بها في ظل هذه التبعية، أو انها ضحت بهذا البرنامج لصالح التقرب من الجماعة الإيمانية، حيث بدت هذه التنازلات أقرب إلى الانعطاف الأيديولوجي منها إلى التكتيكات السياسية الطارئة.
مشاركة :