حلمي موسى تفاقم التوتر مؤخراً على الجبهة السورية بعدما أطلق العديد من قادة «إسرائيل» تهديدات واضحة أثناء زياراتهم المتواترة للهضبة السورية المحتلة. وكان آخر هؤلاء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي أعلن من الهضبة تهديده لمن يحاولون ترسيخ وجودهم العسكري في كل من سوريا ولبنان. وكادت هذه التهديدات، وما أعقبها من اعتداءات واشتباكات أن تقود إلى مواجهة شاملة بعدما أسقطت الدفاعات الجوية للنظام السوري طائرة إف 16 «إسرائيلية». لكن يبدو أن ل «إسرائيل» حساباتها الداخلية في أن تصل بالأمور إلى حافة الهاوية فقط.المقدمة: الواقع أنه لا يمكن قراءة هذه التهديدات من دون أخذ عدة جوانب في الاعتبار، وأولها المطامع «الإسرائيلية» في هضبة الجولان، خصوصاً بعد نيل الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدويلة الاحتلال. وقال نتنياهو الذي رافقه أعضاء المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية، إن حكومته مستعدة لمواجهة كل السيناريوهات على هذه الجبهة، و«أنصح» من أسماهم «أعداء «إسرائيل» بأن «لا يختبرونا». ولفت الأنظار إلى أن زيارة الطاقم الحكومي «الإسرائيلي» للهضبة، وإطلاق التهديدات جاءت بعد موجة من الإنجازات التي حققها النظام السوري ضد معارضيه في العديد من المناطق، ما اعتبر في العديد من الأوساط انتصاراً للتحالف السوري - الإيراني. كما أن التهديدات كانت موجهة في الوقت نفسه إلى لبنان الذي توترت الحدود معه جراء تعديات «إسرائيلية» على «بلوك 9» في المياه الاقتصادية اللبنانية، وتكرار الاتهامات بإنشاء مصانع صواريخ إيرانية في لبنان. ولا يمكن، والحال هذه، عدم الانتباه إلى عبارة نتنياهو أن «الجيش «الإسرائيلي» يقوم بعمل عظيم في الجولان من أجل حماية حدودنا والدفاع عن دولتنا». ومعروف أن اليمين «الإسرائيلي»، برئاسة مناحيم بيجين، كان أول من دفع باتجاه إعلان ضم هضبة الجولان في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1981 وهو الضم الذي رفضته الأسرة الدولية، ولم تعترف به. فقد رفضه مجلس الأمن الدولي في القرار رقم 497 من 17 ديسمبر/كانون الأول 1981. وأكد مجلس الأمن في قراره أن الاستيلاء على الأراضي بالقوة غير مقبول، معتبراً القرار «الإسرائيلي» ملغى وباطلاً، ومن دون فعالية قانونية على الصعيد الدولي؛ وطالبها باعتبارها قوة محتلة، أن تلغي قرارها فوراً. ولم يمنع قرار ضم الهضبة حكومات «تل أبيب» المتعاقبة من المشاركة في مداولات واتصالات مع سوريا بشأن مستقبل هضبة الجولان، بما في ذلك الاستعداد للانسحاب منها. وهذا جرى، ليس في عهود كل من اسحق رابين، وشمعون بيريز، وإيهود باراك، وإيهود أولمرت فقط، وإنما أيضاً في عهد نتنياهو نفسه. ولكن في السنوات الأخيرة، خصوصاً خلال الحرب السورية، صار نتنياهو واليمين «الإسرائيلي» أكثر ميلاً لمحاولة نيل الاعتراف الأمريكي بهذا الضم. ومن المؤكد أن أداء إدارة ترامب وانحيازها السافر في مسألة القدس، وعدد من قضايا الحل النهائي، شجعت نتنياهو على مواصلة هذه المحاولة وتصعيدها. وتنظر حكومة «تل أبيب» إلى كل ما يجري في سوريا كأنه تدخل عالمي في أمر يمس مصالحها الحيوية، وأمنها القومي. فقد كانت سوريا، وحيدة، أو من خلال الجبهة الشرقية، الخطر العسكري الأكبر الذي تفكك جراء الحرب فيها. ولذلك فإن «إسرائيل» من خلال تدخلها المتواصل هناك، سواء في العمليات العسكرية أو الاتصالات مع جهات معارضة في الجنوب والشمال، فضلاً عن اتصالاتها مع القوى العظمى، خصوصاً روسيا، تريد ضمان دورها ومصالحها بالقوة. فهي لا ترى أن لتركيا، مثلاً، أو لإيران بالتأكيد، مصلحة أكبر من المصلحة «الإسرائيلية» في سوريا. وهي لا ترى مصلحتها فقط في استقرار الوضع في سوريا، وإنما أيضاً في تحقيق مكسب ضم الجولان وخيراته إليها. ورغم أن الهضبة السورية المحتلة لا تضيف كثيراً لجهة المساحة إلى مجموع الأراضي التي تحتلها «إسرائيل»، إلا أن مكانتها العسكرية استراتيجية، فضلاً عن كونها أحد أهم مصادر المياه التي تسيطر على روافد نهر الأردن، تمثل دافعاً لدويلة الاحتلال للاحتفاظ بها، وقد أضيف مؤخراً إلى هذه الأهمية اكتشاف حقول نفط وغاز فيها، وتزايد مكانة الهضبة السياحية والاقتصادية. وكما سلف، فإن كل هذه الاعتبارات تلعب دوراً في زيادة وتيرة التهديدات والتصريحات بشأن هضبة الجولان. وقد لاحظ كثيرون أن رئيس الحكومة «الإسرائيلية» التقى في العام الأخير بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتواصل معه هاتفياً أكثر من لقاءاته وتواصله مع حليفه الأكبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ورأى كثير من المعلقين أن نتنياهو، غير المرتاح للدور العسكري الروسي في سوريا والعاجز عن تغيير وجهته، يريد عبر التواصل التقليل من أضراره. وهذا يعني أن تلعب روسيا دوراً كابحاً للتواجد الإيراني في سوريا من جهة، وأن تحاول السيطرة على أداء الحكم السوري ومنع انزلاق الأمر إلى حرب. كما أن نتنياهو حاول، باسم محاربة الإسلام المتطرف في سوريا، إقناع القيادة الروسية بتفهم الدور «الإسرائيلي» وتنسيق الخطوات العسكرية على الأقل في الجنوب.ولا يمكن، عند النظر للتهديدات «الإسرائيلية» ضد سوريا، عدم الأخذ فيالاعتبار الرغبة في أن يقدم نفسه على أنه راغب في الاندماج في المنظومة الإقليمية لمواجهة إيران، وهذا ما تشجع عليه إدارة ترامب الحالية التي ترى أن إيران تلعب دوراً تخريبياً في المنطقة العربية. غير أن كل هذه الاعتبارات السياسية والاستراتيجية ليست العوامل الوحيدة خلف تزايد التهديدات الحربية «الإسرائيلية». فهناك معطيات داخلية لا يستهان بها. وبين أبرز هذه المعطيات التحقيقات بالفساد الجارية ضد نتنياهو التي تسهم التوترات الأمنية في إبعادها عن الواجهة الإعلامية. وفي حمى التصعيد الحربي على الجبهة السورية نشرت الصحف «الإسرائيلية» أنباء عن طلب ديوان نتنياهو من الشرطة تأجيل نشر التوصيات بشأن قضايا الفساد المتهم فيها. كما أن هذه الصحف نشرت تقارير عن تأجيل نتنياهو مواعيد للتحقيق معه في الشرطة جراء انشغالاته السياسية والأمنية. ومعروف أن التحقيقات ضد نتنياهو تضعف مكانته داخل الحلبة السياسية عموماً، وفي الليكود خصوصاً. وهذا يدفع منافسيه لإطلاق التصريحات والتهديدات لإظهار مواقعهم في المنافسة. كما أن عدداً من قادة الأحزاب الأخرى، خصوصا أفيجدور ليبرمان، ونفتالي بينت، الذين يتنافسون على منصب وزير الدفاع أسهموا بشكل كبير في تفاقم الوضع في الشمال بتصريحاتهم الحربية. ولهذا بعد أن كادت مواجهة شاملة تقع كان أول طلب لنتنياهو من وزرائه هو الكف عن إطلاق التصريحات بشأن سوريا. ولكن إذا كانت التهديدات قد هدأت بعد المواجهة، فليس هناك أبداً ما يمنع عودتها إلى الواجهة من جديد قريباً. فكلما اشتد ساعد النظام السوري وأفلح في بسط سيطرته على مناطق جديدة وعمق من تحالفاته كلما توفرت أرضية جديدة لتهديدات جديدة. helmi9@gmail.com
مشاركة :