المخرج الصيني وانغ سياو شواي يتحدث إلى «الحياة» عن سينما المؤلف والثورة الثقافية والرقابة والسوق

  • 2/16/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

سينما هذا المخرج الصيني تصيب بالإدمان. ثمة شيء كالمغناطيس يشدّ إلى الصالة التي تعرض أفلامه. حين تتم استعادة لها في مهرجان، يصبح من الصعب الالتفات لأفلام أخرى. تتغلغل صوره وحكاياه في الأعماق، بأجوائها وشخصياتها وفنيتها. مدن وقرى، أنهار وجسور، دخان وضباب، ناطحات سحاب و بيوت من قرميد... أماكن تسرح فيها شخصيات مؤثرة بصمتها وبوحها، بؤسها وعنفها، هامشيتها وضعفها. «وانغ سياو شواي»، أحد السينمائيين الأكثر أهمية في السينما الصينية المعاصرة، سينما المؤلف التي هي على وشك الانطفاء في الصين. أفلامه لوحات مؤثرة عن أناس عاديين ومهمشين، ونظرةٌ ثاقبة على شباب يبحث عن الرزق مهما كان ضئيلاً ويرى في الهجرة الحل الوحيد لمشاكله، وكشفٌ لصفحات غير مجيدة في التاريخ الصيني... حقق حتى اليوم، عشرة أفلام ونال العديد من الجوائز في كان وبرلين وروتردام، منذ فيلمه الأول «الأيام» (1993) الذي يحكي عن شباب لا يجد نفسه في مجتمع لا يؤمّن مستقبله، وُضِع على اللائحة السوداء في الصين. ثلاثيته عن الثورة الثقافية استوحاها من سيرته وبدأها مع «أحلام شنغهاي» الذي نال جائزة التحكيم في كان 2005، وأنهاها عام 2014 مع «نسيان أحمر» وبينهما كان «11 زهرة» (2011). مهرجان فزول الدولي للسينما الآسيوية كرّمه أخيراً بمنحه درع «الدراجة الذهبية» واستعادة أفلامه العشرة. التقيناه هناك حيث تردد أنه لم يستقل السيارة لتنقلاته فيها إلا فيما ندر وكان يجوب المدينة منذ الصباح سيرا على الأقدام متنقلاً بين مكان وآخر. > يقال هنا إنك لا تحبذّ استخدام سيارة المهرجان لتنقلاتك! - آه! كيف يمكن لمن يتاح له المشي في مدينة هادئة كهذه، لا يسمع فيها أبواق سيارات ولا يشم دخان مصانع ولا يشق طريقه بصعوبة بين الزحام... أن يستقلّ السيارة؟! أريد تنشق هذا الهواء النظيف والتمتع بكل هذا الصفاء والنقاء! > يبدو من بعض أفلامك أنها مستوحاة من حياتك، من الأماكن التي عشت فيها والأشخاص الذين أحاطوا بك. - بالتأكيد أنها من سيرتي وسيرة من حولي، لا سيما الثلاثية المستوحاة مباشرة من حياتي الشخصية وحياة معارفي، وهي تتناول تماما فترة من تاريخي الشخصي. > في «أحلام شنغهاي» الذي يحكي فترة الستينات، نشهد حركة نفي وتنقلات واسعة للسكان في الصين، بحيث أن عائلات بأكملها نُقلت من المدينة للريف، مثّل هذا إذا جزءاً من تاريخ عائلتك؟ هل يمكن إعطاءنا توضيحات عن هذه المرحلة في تاريخ الصين ومدى تأثيرها الشخصي عليك؟ - هذا الفيلم هو الأكثر تعبيراً عني وقد سمحت فيه لنفسي برواية حكايتي بكل حرية، أنها المرحلة التي كنت فيها شاباً مراهقاً. لقد شهد تاريخ الصين الحديث ثلاث هجرات داخلية أثّرت على تكوين المجتمع. الأولى كانت بعد نهاية الحرب الثانية ومثلت عودة العسكريين للاستقرار بعد أن سبق وتوزعوا في كل الأمكنة؛ ثم جاءت هجرة مرحلة الثورة الثقافية (1966-1976) التي يعبر عنها تماماً تعبير صيني «الصعود إلى الجبال والنزول إلى السهول». وفي منتصف الستينات، أدت العلاقة المتوترة بين الصين والاتحاد السوفياتي، والصين وتايوان إلى خشية الحكومة من وقوع الحرب، فاتخذت القرار بنقل الصناعة الثقيلة لا سيما مصانع الأسلحة من بكين وشنغهاي إلى الريف. كنت صغيراً آنذاك، وحدثت تحركات كثيرة وتنقلات لدى العائلات وكانت أمي من بين هؤلاء العاملين في مصنع الغواصات النووية الذين نقلوا من شنغهاي إلى بلدة صغيرة. الفيلم يروي مرحلة من ذكرياتي خلال إقامتنا في تلك البلدة حيث أناس وعمال يأملون بالعودة إلى جذورهم ومدنهم الأصلية بعد أن أجبروا على تركها. أما الهجرة الثالثة وهي الأهم لأناس مثلي، فكانت في الثمانينات مع النزوح من الريف نحو المدينة، كانت مرحلة البناء في المدن الكبرى وشكل هذا بالتالي آمالاً للكثير من الشباب الذين تركوا الريف بحثاً عن الرزق مهما كان قليلاً. لم يبق في القرى سوى النساء والشيوخ والأطفال وهذا ما أتناوله في فيلمي «قريباً جداً من الجنة» (عرض في كان «نظرة ما» 1999).   عودة الى الحنين > عدت من جديد في آخر أفلامك «النسيان الأحمر» وهو الأخير في الثلاثية، إلى تلك المنطقة الريفية «غويانغ» التي صورت فيها «أحلام شنغهاي»، هل هو حنين لتلك الفترة من عمرك ولهذه المنطقة التي شهدت طفولتك وشبابك؟ - عادة أن الناس الذين ذهبوا قسراً إلى العمل في هذه المناطق وانتظروا أي فرصة سانحة للعودة إلى مدنهم الكبرى، لا يفكرون بوضع القدم فيها بعد مغادرتها. يريدون نسيان تلك المرحلة بكل ما حصل فيها مع أن المثل يقول «سواء رغبت أم لا، هي هنا». لقد تركوا المنطقة لكن كل ما يدلّ على حياتهم الماضية فيها ما زال هنا، كل الأماكن والذكريات... إنها أثر لا يمحى حتى لو كانت المنطقة مهملة حاليا والمصانع مهجورة. عودتي كانت سفراً في الزمن وعبور فيه. بين تصوير الفيلمين مرت عشر سنوات وثمة مشاهد متماثلة تماما فيهما، عدت لنفس الأماكن وقد ترك الزمن بصماته عليها وصورتها ولعلك لحظتها في الفيلم. > كيف كانت ردة فعل الناس هناك تجاهك؟ - عرفني كثيرون حين صورت هناك، جاؤوا نحوي وحيّوني. وتعرّفت أنا على أناس كانوا شاركوا في «أحلام شنغهاي»، وبعضهم من العمال الذين تعود أصولهم إلى شنغهاي وشمال شرق البلاد، كانوا أتوا في الماضي إلى هنا للعمل في التصنيع الثقيل للأسباب التي شرحتها سابقاً. من المثير أنهم بعد كل هذه السنوات الطويلة من الغربة عن مناطقهم ما زالوا يحتفظون بلهجتهم الأصلية! > هل شاهدوا الفيلم الذي سبق وشاركوا فيه؟ - فقط منهم هؤلاء الذين عاشوا قريباً مني، أي في منطقتي المباشرة، لكني لا أظن أن البقية فعلت. > في «نسيان أحمر» Red Amnesia، هل تمثل الجدّة الحزب الحاكم؟ أهو مطالبة بالاعتذار عن تلك السنوات ودعوة لمراجعة الأخطاء مع ظهور أشباح الماضي التي تلاحق البطلة؟ - أمنيزيا هو نوعاً ما مرض فقدان الذاكرة أو الزهايمر. إن من عاش تلك الفترة في الصين يريد نسيانها، يفضّل محوّ كل ما مرّ خلال الثورة الثقافية ونسيان هذه السنوات المؤلمة. أعتقد أن مواجهتها وأخذ العبر منها واجبة من أجل المستقبل وكي نتجنب ثورة ثقافية أخرى مستقبلاً. الشخصية الرئيسة في الفيلم تظنّ أن حياتها على ما يرام وهي تعيشها وكأن هذا الماضي لم يوجد يوماً، إنما لا! ها هي أشباحه تحوم حولها. لقد وجبت عودتها للمنطقة حيث عاشت سابقاً وارتكبت خطيئة بحق معارفها. كان هذا لجلب الراحة والسلام لروحها. مع الثورة الثقافية حدثت كوارث، لكنها مع التطور الاقتصادي باتت بعيدة ولم يعد أحد يتذكرها. إنما اليوم ثمة عودة للمراجعة وللتفكير بما حدث. صحيح أن الحكومة تفضّل متابعة السير للأمام دون الرجوع إلى الماضي، لكن في مجال الأدب والفنون يظل هذا الموضوع حساساً وثمة نقاشات دائمة عن مدى جدوى الثورة الثقافية وتأثيرها إلى الآن. شباب اليوم لا يعرفون ما حدث حقاً بل أن بعضهم يرى فيها شيئاً إيجابياً. > لا يبدو أن هذا رأيك. - بالطبع أنا ضدها وهذا واضح في أفلامي. كل الأحزاب السياسية ترتكب أخطاء، إنه أمر عادي. لكن في المقابل يجب الاعتراف بها وتصحيحها، إذا لم نفعل وندرّس الشباب ما جرى، فستحدث ثورة أخرى وقد تهبط فجأة ولا ننتبه لها.   الهوة بين الأجيال > تحكي أفلامك الهوة بين الأجيال على خلفية سياسية اقتصادية، ماهي التغيرات التي طرأت على الجيل الجديد في الصين، وكيف أثر التطور الاقتصادي عليها وعلى السينما؟ - التعبير الذي استخدمته دقيق تماماً، إنها هوة. نعم ثمة هوة بين الأجيال، ليس في الصين وحدها بل في العالم أجمع. إنما في الصين مثلاً واعتباراً من بداية التسعينات، حصلت تحولات كثيرة لدى الجيل الشاب يجعل من تلك الفترة منعطفاً حقيقياً يفصل بين جيلين. في السينما كذلك حصلت تغيرات. قبلها كانت ثمة شروط كثيرة لتحقيق الفيلم منها التفكير بما يمكن قوله وبما لا يمكن. كان الفيلم وطنياً بمعنى أن الدولة هي المقررة والمسؤولة، ثم حدث التحول وبدأ جيل من السينمائيين يسعى لحرية أكبر واستقلالية في العمل. في أفلامي أحاول الربط بين السياسة وبين المجتمع الصيني، لكني لا أراعي الاعتبارات السياسية ولا أسعى للدعاية الحكومية المسيطرة، بل أعتمد على أفكاري الخاصة كي يعبر الفيلم عني وعنها، إنه فيلمي! > بداية التسعينات، هل تقصد أحداث ساحة تيانانمن (التي شهدت احتجاجات الطلاب وراح ضحيتها المئات)؟ ما مدى تأثيرها على سينما المؤلف الصينية؟ - أود الإشارة قبلها إلى عقد الثمانينات الذي تلا نهاية الثورة الثقافية (1976 التي انتهت بموت ماوتسي تونغ) كان فترة مهمة في حياتي، وهو العقد الأفضل والأكثر حرية لنا، كنا نستمع إلى إذاعات أجنبية مثلاً ولم يكن هذا متوفراً قبلاً. ثم جاءت «أحداث 4 حزيران» (يونيو 1989) وقلبت كل شيء، كانت حدثاً تاريخياً هاماً جداً وتحولاً في بوصلة البلد وظن كثيرون أن بلدنا سيتغير فوراً بعدها. كنت طالباً في الجامعة وفي مرحلة التفكير بمستقبلي وبالعمل الذي يناسبني. وكان جيل جديد من المخرجين يظهر ومعه بداية جديدة لسينما مستقلة، واستمر هذا حتى عام 2003 حين بدأ مكتب السينما الحكومي بالانفتاح على المخرجين المستقلين، وبدا آنذاك وكأن الصين تستيقظ لتقرر تحرير السوق كي يتطور الفيلم المستقل. كان التغير الأضخم في السينما الصينية والأهم كذلك وكان نتيجة التغير الذي بدأ مستهل التسعينات. > واجهت أفلامك متاعب من مكتب السينما أي الرقابة وعدد منها لم يعرض في الصين، ما نوع الرقابة التي تطبق على الأفلام هناك؟ - كلمة واحدة تلخص الوضع: معقّد! اليوم السوق أكثر انفتاحاً وهناك رأسمال أجنبي دخل الصين وثمة أفلام تقلد السينما الهوليوودية. في السابق كانت هناك رقابة الدولة أما اليوم فالرقابة ذاتية، نسأل أنفسنا إن كان عملنا ملائماً للدولة وللجمهور. > وهل تمارس هذا أنت أيضاً في أفلامك؟ قرأت أنه منذ تحولت الصين إلى قانون السوق فإن مكتب السينما بات أكثر تسامحاً ويترك للسوق القرار؟ - أنا أدرك ما حصل في الصين وأراعي ذلك وكنت حساساً بشأنه. وما هو مهم أن الرقابة لن تختفي وهي أمر لا مفر منه. ثمة مخرجون كثيرون الآن يقولون لن نحكي عن السياسة بل عن المال! هذا هو الجو السائد حالياً في السينما، الرقابة أكثر مرونة لأن المال هو الذي يسيّر كل شيء والسوق يسوده التوتر لوجود استثمارات كبيرة. أعطيك مثالاً، يحظى الفيلم التجاري الهوليوودي بنسبة أربعين في المئة من السوق، أما فيلم سينما المؤلف الذي يروي الحياة اليومية للناس فحصته لا تتجاوز النصف في المائة! لاحظي الفرق، هذا شيء فظيع حقاً! سينما المؤلف تختفي في الصين. أيضاً ليس الجمهور من يقرر مصير الفيلم بل السوق. (فتح هاتفه وبدأ بالبحث عن جداول العروض) انظري للنسب، الفيلمان اللذان يتصدران لائحة السوق يجتذبان 18 و19 في المائة من الجمهور، فيما الأفلام «الصغيرة» لا تتجاوز ال0.3 في المائة. أي أن المشاهد لديه فكرة مسبقة عن الفيلم قبل الذهاب لمشاهدته ومن البداية يقرر له السوق توجهاته.   أفلام مهرجانات! > هل لكونك مخرجاً معروفاً عالمياً يقدره الغرب وتعرض أفلامه في مهرجانات كبرى مثل كان وبرلين، تأثير على نسبة إقبال الجمهور على أفلامك في الصين؟ - على العكس! قد يكون هذا دافعا للقول إن أفلامي مصنوعة للمهرجانات الأجنبية وليس للمحليين! خذي مثلاً «أحلام شنغهاي»، حين عرض في الصين عام 2005 اجتذب خمسة ملايين مشاهد، عشر سنوات بعدها ومع زيادة شهرتي وعدد الشاشات في البلد بقي رقم المترددين على أفلامي نفسه! لم يترك لنا السوق الفرصة ولا المكان لنقدّم أنفسنا، قرار العرض ليس بيد الجمهور بل بيد أصحاب السينما، يعرضون أفلام هوليوود وتلك الصينية التي تقلدها لأنها تجلب لهم المال. بعض هؤلاء صغير السن حقاً وليس محترفاً، وبدلاً من احترام الفن والسينما لا يهتمون سوى للمال والسوق، وكلما ارتفع رأسمالهم زاد نصيبهم من السوق. كيف تريدين لمثل هؤلاء الذين لا خبرة لديهم أن يتصرفوا كما يجب؟. كيف تريدين لمجموعة صغيرة مثلنا أن تأخذ مكانها؟ أفلام كهذه لها تأثيرها القوي على الجيل الجديد ولهذا قررت الحكومة أن تخصص بالتناوب شهراً لأفلام هوليوود وآخر للأفلام الصينية، وبما أن ثمة الكثير من الأفلام الصينية التجارية التي تتنازع الصالات وتحتكرها فلا يبقى مكان لفيلم المؤلف. > سؤال أخير، كيف أتيت للسينما؟ - غالبا ما يقرر لنا الأهل في الصغر ما علينا دراسته، ولم أكن استثناء! على الرغم من الثورة الثقافية كانت تعرض لنا أفلام في الهواء الطلق في القرى الصينية وكنا كأطفال نترقبها ونعشقها وكانت حدثاً. كما كنت مهتماً بالرسم وأراد لي والدي دراسة الفنون الجميلة ففعلت، ثم قررت بعدها الدخول إلى معهد السينما. في فيلم «11 زهرة» الأب موجود باستمرار قرب ابنه يرشده ويعلمه، إنه نموذج الأب الصيني التقليدي.

مشاركة :