الفليّح خازن الصحراء الذي جسَّد أحزانها لفّته أمه بطرف عباءتها وسارت تغني في ركب القبيلة الظاعنة

  • 2/17/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

صعاليك الصحراء يعرفون سحنته التي آل بها الدهر المدقع والفقر الموقع، كما أن ندماء الملوك والأمراء يعرفون هيئته النصعانية المترفة الموثورة بالثراء والغنى، قاد الصعاليك والندماء مكتحلاً السهاد ومستوطناً الوهاد وانتصر بهم في كل معاركه الهذرولوجية، تعرفه العاصمة الكويت كما تعرفه الرياض وتعرفه عواصم البياض، انه ابن الصحراء خازن الرياح ومستودع الرمال سليمان الفليح على قبره ألف ألف حديقة من النور وعلى روحه ملايين الرحمات. الفليح هذا المأهولة حروفه المستشيطة المتلظية بجمر لظى تلاصقت على أكعاب المشائين بالمفاسد وحولتهم لأسمال ممسودة. طالما هدم مشاريع المقاولين الوهميين وأوهن طرق الشبكات الإسفلتية المنسوجة من خيط العنكبوت الأسود، حروفه للصحة دواء وللتعليم بناء، وله في كل ما من شأنه حب الوطن وتقدمه اشتهاء، ياكم نادت وتنادت زاويته في صحيفة الجزيرة «هذرلوجيا» يا أخاير الذخاير وبشائر العشائر أنعموا صباحاً وانظروا لذلك القابع الذي أوقعته ظروف المرض على شرشف أبيض، يمغر وجهه المتعب في الدقعاء على أطراف الشمال حتى يشغر السرير العاصمي، ونادت وتنادت حروفه لقرية جنوبية تنتظر كراسي وسبورة لطلابها، وتنادت قصائده سلوة للمعدمين والمعطوبين، شمر للانثناء وهو يلف قصائده وسيرته العاطرة بعد توفيه الثناء واتكأ على مرقده الأخير تاركاً وراءه مجداً لا يفنى. سليمان بن فليّح السبيعي العنزي. ولد حسبما يقول رواة القبيلة بين العام 1951 - 1952 م في الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية، وتحديداً في صحراء الحماد وهي المدار الإقليمي لنجعات قبيلته وارتحالاتها. يقول الفليّح عن نفسه : وضعتني أمي تحت شجيرة في الصحراء، ولفّتني بطرف عباءتها. ثم سارت تغني في ركب القبيلة الظاعنة نحو حدود الغيم بحثاً عن الكلأ والماء. عشت طفولة بائسة بين رعي صغار الغنم، ورعي الضأن، ورعي عدة نوق عجفاء، وهي آخر ما تبقى للأهل بعد سنوات متوالية من الجدب والقحط والجوع. مات أبي خلال تلك الظروف بسبب فقر الدم وداء السل الرهيب. ثم تزوجت أمي من رجل آخر، وتعهد بتربيتي خالي العظيم ثم وفي ميعة الصبا والشباب عدت إلى قبيلتي التي طوت خيام الترحال، وتوزعت بين المملكة والكويت لتستقر نهائياً في هذين البلدين العزيزين. أما أنا، فقد التحقت بالجيش الكويتي منذ عام 1970 م إلى أن تقاعدت في أوائل 1997م، وقد تدربت خلال تلك المدة على العمل الصحفي في جريدة السياسة الكويتية، وكتبت أولى مقالاتي (هذرولوجيا) فيها، حتى انتقلت لصحيفة الجزيرة السعودية في العام 2004م. وكتبت بنفس المسمى زاويتي بشكل شبه يومي. الجوال الذي نبش الصحراء وأخيلتها الكاتب والإعلامي سامي الفليّح أحد أبنائه الذي ورث عن الراحل أثمن المقدرات والكنوز ركاز المداد السحري وطروس الغيمات المدارية. إضافة لبقية أشقائه الكاتب الصحفي والمعد بقناة الثقافية بسام, والباحث والشاعر أسامة, والشعراء مساعد وسعود وسعد. جميعهم من المهتمين بالكتابة الإبداعية الواعية ومن المعنيين والراصدين للحراك الثقافي في البلاد, وهذه من أندر التركات التي يزجيها الراحلون للأبناء. يقول سامي عن والده : أبي عاش حياته بدويا جوالا يرتاد الآفاق ويخترق سكون الصحراء الأبدي في كل توغل من توغلاته العميقة, أبي أشغلته الصحراء وشغلها بالأخيلة الهائلة فكشف أسرارها العصية ونبشها حجراً حجراً, شجراً شجراً , مخيماً فوق غيماتها, متخللاً إياها كعاصفة مدارية أو سيل عرم, فاستحال عناوين وأبيات وقصائد, تورد وتشجر وتندى وتفجر ما هو بين أيديكم الآن أعمالا شعرية ونثرية كاملة تترجم سيرته ومسيرته في ظعون الكلمات وقوافل الخيال ومجرات الشعر القصية , أبي خازن الصحراء الهائل وسيد تفاصيلها ومنجم أسرارها الكبير, أظنته بقسوتها وصرامتها وجوعها الدهري وفتنته ببهائها ومخاتلتها وغموضها السكوني . وأضاف بحرقة الفقد متأملاً وجه أبيه من ذاكرة الوفاء : ماذا أقول عن ذلك المحب الكوني والعاشق المراهقي الذي يقفز مع أول قطرة مطر حتى آخر عشبة برية تقاوم التصحر والجدب, الهائم الشريد وحيدا كاسرا كذئب في ملكوت الليل, أبي الذي أحب, أبي الذي فخرت به طفلا وولداً ومراهقاً وشاباً وصحفياً يلتمس خطواته ويشكل إدراكاته مدفوعاً بتحدي الذات, وكاتباً يحاول انتزاع إعجاب أبيه الحاني ومفاجئته برأي أو جملة أو كتابة مختلفة, أبي صديقي الكبير ومثالي الدائم وجداري الصلب الذي ملت إليه فزرع النصائح وشحنني بالأمل والأمنيات والتجلد وودعني بالدعوات الطيبة. منزله منصة للكويتيين خلال أزمة الكويت وعن المرحلة المزامنة للغزو العراقي للكويت وكيف كانت تحركات الفليح حينها يقول سامي: مع دخول القوات العراقية غازية للكويت انتقلت عائلتنا للسكن في مدينة الرياض حيث الأقارب والأهل وأبناء العمومة, كان وقع الغزو العراقي قاتلا وصادما حد الفجيعة على أبي. لكنه بدأ بعد أسبوعين من الغزو الغاشم في إطلاق قذائفه الكتابية اليومية الملتهبة بمؤسسة اليمامة مع الحق مفندا وكاشفا ورادا وصادحا بما يمليه عليه الظرف وتستوجبه القيم والأخلاق, كان أبي جبهة حقيقة ضد الظلم مع الحق, الأمر الذي وصفه جاسم الشمري الكاتب الكويتي وهو يؤرخ لمرحلة الغزو العراقي «بأن قلم سليمان الفليّح كان عاصفة الصحراء الكتابية « في إشارة لعملية تحرير الكويت العسكرية التي حملت اسم «عاصفة الصحراء» تلخيصا لما كان يسطره أبي بحروفه, كان منزلنا خلال فترة الغزو مقصدا لأغلب المثقفين كويتيين وسعوديين, نقاشا وسجالا وكذلك الناس الذين فقدوا أحبة آملين أن تصلهم حروفه بمن فقدوا أو شردوا. وأضاف: تحول أبي إلى صلة وصل بين الكويتيين ووطنهم السليب من زاويته كانوا يطلون عليه ويتصلون به, تحول أبي لرمز شعبي كويتي خالص وسلسلة كتابية إبداعية تبرد ما في قلوبهم من حرقة, كما واصل نضاله الكتابي والشعري عبر زاويته «هذرلوجيا» متصديا لكل الأطروحات التي كانت تقف بصف المعتدي والتي كانت حينها تجد صدى عربيا ومع تشكيل «المركز الإعلامي الكويتي» الذي أنشأته الحكومة الكويتية في الرياض لمواجهة ورصد والرد على مايكتب وينشر تبريرا للظلم وتعضيدا له, فتطوع للعمل إذ رأى أن الظرف يستلزم التضحية وان التوصيفات والمناصب لا تهم مقابل الهدف الأسمى وهو تحرير دولة الكويت. عاد بعد ثلاثة أيام من دخول قوات التحرير ومع تحرير الكويت كان أبي على أول طائرة تحمل الإعلاميين للأرض المحررة, فكان من أوائل من دخل أرض الكويت الحرة بعد ثلاثة أيام من دخول قوات التحرير, ومع بدء عودة الشعب الكويتي لأرضه المحررة قرر عدم العودة والاستقرار في الرياض حيث وجد الحب الهائل من المسؤولين والناس, لقد شعر حينها انه أنجز مهمته وان معاركه الكبيرة في الحياة تقلصت, لكننا أقنعناه بأن سنوات قليلة تفصله عن حصوله على التقاعد الوظيفي وانه يمكنه العودة بعد ذلك العودة للاستقرار من جديد في الرياض التي أحبها حبا هائلا بكافة مستوياتها الشعبية والرسمية، لكنه ومداراة لخواطرنا عاد للكويت بعد تحريرها وعاد لعمله في الجيش الكويتي بانتظار انقضاء المدة الباقية على تقاعده فيما بقيت روحه في المملكة العربية السعودية التي وجد بها ما ظل يبحث عنه عمرا بمواقف قادتها, وشعبها ومثقفيها, ومع بدء عودة الصحافة الكويتية للعمل بعد تحرير الكويت عاد للكتابة اليومية من خلال صحيفة «الوطن» الكويتية المعروفة ومن خلال زاويته «هذرلوجيا» 1992 م. واستمر الأمر هكذا مع حفاظه التام على علاقته بمجلة «المختلف» التي اعتبرها ابنته فكتب بها ونشر قصائده وظل بمثابة مستشار لكادرها التحريري طوال التسعينيات الميلادية, ثم تلقى أبي دعوة للانتقال للكتابة في صحيفة «الرأي» بعد انتقال ملكيتها على الصفحة الأخيرة العام 1996 م. وهكذا انتقل أبي للكتابة ناقلا معه رفيقة عمره الكتابي «هذرلوجيا» حتى أكمل السنوات المستحقة للتقاعد الوظيفي في العام 1998 م. بعدها ودع الوظيفة الرسمية وتفرغ للكتابة الإبداعية, ثم عاد أبي حرا دون قيد وبلا شرط مقررا الانتقال والاستقرار في المدينة التي أحبها وأحبته الرياض . *** وتابع : في 23 يوليو 1999م حمل أبي رحله وعائلته حاطا ركائبه في كنف أمير الرياض الكبير - حينها - صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود الذي أكرم أبي كما هي عادته وحل كل إشكالاته الحياتية والإجرائية كما يفعل سموه الكريم دوما مع كل من يصله من الشعراء والمثقفين والإعلاميين العرب فأحبه أبي عميقا, ورآه وهو كذلك مثالا لكل القيم النبيلة التي بحث عنها طويلا, فاستقر بعد أن أضناه الارتحال واستمر في الكتابة شبه اليومية المنتظمة, لقد عاد من جديد للالتحام مع من يحب حكاما وشعبا, قراءً ومسؤولين مستمرا في تبني صوت الناس ومشاكلهم وحضوره المميز وسط تفاعل كبير فأحاطه الناس بالمحبة والتقدير من مختلف الشرائح والمستويات. عاد أبي إلى صحرائه الهائلة وأناسها الجميلين, الذي كانوا يستقبلونه في كل قرية أو هجرة أو مدينة يحل بها مهللين مرحبين داعين كنجم شعبي حقيقي, ووسط هذا استمر في كتاباته التي تجلت وتألقت فكانت ( الهذرلوجيا ) عنوانه الدائم وفي العام 2004 انتقل للكتابة في «جريدة الجزيرة « بشكل شبه يومي مع ذات التناولات والوهج الذي ملأ حياته بالجمال والبهجة, كانت السنوات الأخيرة لحياته منذ انتقاله للاستقرار في مدينة الرياض 1999م وحتى وفاته رحمه الله في 21 أغسطس 2013 م رحلة من المتعة والبهجة والهدوء الرائع محاطا بكل ما يحب وسعة من العيش عوضته عن كل سنوات الحرمان الطويلة. كان الفضل لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود الذي أحاطه بالرعاية، فحاول أبي رد معروفه الهائل بقصائد نشرها خلال حياته لهذا الملك المثقف الذي أولى رعاية خاصة لكل الأدباء والمثقفين والشعراء والكتاب . الغناء في صحراء الألم ترك الفليح وراءه سبعة دواوين زخرت بها المكتبة الخليجية والعربية استهلها ببواكير أعماله «ديوان الغناء في صحراء الألم في عام 1979» و» أحزان البدو الرحل 1980» و» ذئاب الليالي 1993» و» الرعاة على مشارف الفجر 1996» و» رسوم متحركة 1996» و» البرق فوق البردويل 2009» و» الأعمال الشعرية الكاملة من 1951 - 2013م». خيمته تهتف حين ترضع الغيمة الشخانيب والسهوب من جانبه كشف «للثقافية» ابنه الباحث والشاعر أسامه الفليّح أن هناك أيضاً عدة إصدارات سترى النور قريباً بينها دراسات نقدية والانتربولجيا, ودراسة العرف لدي البادية, ودراسة عن حياة الصعاليك العرب, ودراسة ومحاضرات عن (حنشل البدو، والهمباته في السودان), والسيرة الذاتية لطائر الشمال (مذكرات), ومقالات هذرلوجيا من 1973 - 2013م, ومجموعة قصائد (نبطية), ومحاضرة الحدا نشيد الموت, وحلقات من برنامج حيهلا في قناة الواحة 2002م, وشهادات حول التجربة, ودراسات عن شعر الفليّح, ولقاءات صحفية - تلفزيونية - إذاعية. مسلطاً الضوء على الدراسات والبحوث والمقالات النقدية المنشورة التي كتبت حول تجربة والده الشعرية والتي بلغت أكثر من اثنتي عشرة دراسة نقدية لأدباء ونقاد وكتاب وشعراء، كما شملت الدراسات على رسائل مقدمة للجامعات من الباحثين للحصول على رسالة الماجستير وشهادة الدكتوراه. سُلط فيها الضوء بالبحث والتحقيق على تجربته الحداثية الرائدة ومفرداته ومدلولاتها النفسية وتأثيراتها الإبداعية, وإسهامه في خلق فضاء ثقافي مغاير يوحي للقارئ وكأنه على جال ضوء نار بدوي في خيمته وسط الصحراء يقلب حطب الأرطى وجمر الغضى لا يفكر سوى كيف يمضي على أعقاب سحابة نفضت صدرها وغنت لها شناخيب الجبال والسهوب المعشوشبة فرحاً لطلع الروثة والربلة والرمث والشيح والقيصوم. أذهل موفآكو لأن بيده الوار ورامبو وبوشكينه وأبان الفليّح : أن أعمال والده الراحل ترجمت لعدد من اللغات منها الإنجليزية والروسية والفرنسية والصربواكيـة. كما تناول عدد من الأدباء والكتاب المشرقيين تجربته ومنهم المستشرق الألباني ( موفآكو ) الذي أذهله انفراجه على قراءة حضارات الغرب وانفتاح روحه الإبداعية وهي تستشف وتتلقف الشعر بتجاربه العالمي، فكتب عنه «يالذيك البدوي الذي يجول شوارع الكويت حاملاً دواوينه الصغيرة ودواوين الوار ورامبو وبوشكينه إنني لم أكن أتخيل وجود مثله في خليج النفط». ولشده ما قرأ عنه وشده به المستشرق الروسي ( شاغآل ) وصفه بالكنز ولام المستكشفين والمنقبين الروس الذي لم يعثروا على كنوزه المرصودة والمخبوءة في جوانحه فقال: «لماذا لم يقل لي المنقبون عن الكنوز من جوف الأرض إن في بلادكم من بين هذه الكنوز هذا الشاعر الرهيب الذي يحيا فوقها!». وتحدث عن أصالته وحداثته المتمازجة والمتلاقحة الأديب والمؤرخ الكويتي خالد سعود الزيد الذي قال فيه «تلتقي البداوة بفطرتها والمدنّية بخبرتها في شخص». وها هو الكاتب ماضي الخميس يؤكد ما ذهب إليه الزيد من تمازج الحالتين داخله وينصبه سفيراً للبادية والمدينة «إنه سفير البادية في المدينة وسفير المدينة في البادية». أخلص للفقر والشظف ورقة الحال وخشونة العيش الناقدة والباحثة الكويتية الدكتورة نجمة عبد الله إدريس تناولت أشعار الفليّح في دراسة بعنوان «أسفار الترحال والهجرة» أشارت فيها إلى أن الفليّح اتخذ من (الصعلكة) أسلوباً للتعبير عن المعاناة والرفض. إذ وجد في الصعلكة بما فيها من إيحاءات تراثية غنية الوعاء الأمثل لتجربته الشعرية المنطوية على الإحساس الفادح بالظلم ورقة الحال والانكسار أمام مظاهر التسيّد والقسوة، ومشاهد التلوث الاجتماعي وحصار الثقافة المادية، ناهيك عن اغتيال قيم البراءة متمثلة بانسحاق الصحراء والبداوة أمام زحف مدينة جائرة تقزّم الإنسان وتهضمه وتنتهكه بلا هوادة . لذلك تبدو الصعلكة طريقاً لا مفرّ منه لشاعر مثل سليمان الفليّح يعيش تجربته الشعرية بمستوييها الفني والواقعي. إذ تغدو الصعلكة قدراً وواقعاً يتلبس الشاعر فيتخذها مطيته وأداته الوحيدة لبث معاناته ورفضه واستهجانه لواقع يعاديه أو ينبذه أو يهشمه. ولعل في ارتداء ثوب الصعلكة وإعلانها صهوة انطلاقة ما أعانه على التهامي بشخصيات الصعاليك واكتساب جرأتهم في المشاكسة والمناوشة والسخرية والتهكم، وزهوهم بشجاعة المواجهة والصلف والتحدي، وإخلاصهم للفقر والشظف ورقة الحال وخشونة العيش. الأربعة التي تلت تعني أن استخدامها وتمثلها غدا موقفاً شعرياً يسم الشاعر بهذا الملمح المميز. وتنوه «إدريس» ان أول استخدام للمصطلح نجده في نص (من مفكرة صعلوك) ديوان الغناء في صحراء الألم: توضأت بالرمل عند ارتحالي تزودت بالتمر والنفط، كانت طيور الجزيرة رفوفاً مع الغيم والشمس تأتي رفوفاً... رفوفاً... إلى واحة السدر عند الظهيرة وكانت غيوم من القطن تندس فيها الطيور مبللة تنحني فوق رأسي تمارس هجراتها المستديرة توقفت. قلت: ارتحالي طويل، تفيأت ظلي ونمت وعقلي تفيأ ظل الشجيرة أفقت من النوم، نظفت عقلي وصارعت طعم النعاس، انتفضت تذكرت زحف الأفاعي الخطيرة وأيضاً تذكرت أني نسيت اصطحاب تعاويذ أمي وحرزي، ووسم العشيرة * * * جسد أحزان البدو بجر الربابة وأغاني الصعاليك تقول «إدريس» : الصعلكة في هذا النص تأتي موازية للارتحال الكسير المرتجف الذي يبدو فيه المرتحل متوجساً من (زحف الأفاعي، والطيور التي تحدّ مناقيرها) وحادثا بالاصطدام (بالأسيجة والتخوم) التي تثقب براءته وعنفوانه وتملؤه حزناً ودمعاً ولكن الاصطدام بتخوم المدن الجائرة يحدث لا محالة.. وتنتهي الرحلة بالانكسار .. ولا يبقى من فيء غير (ظل الجناح المرفرف). ثم جاء الاستخدام الثاني لمصطلح الصعلكة مرتين من ديوان (أحزان البدو الرحل ) مرة في نص (جرة على الربابة ) الذي أهداه إلى (شليويح العطاوي) الذي عرفه بقوله (إنه من أشهر فرسان الجزيرة العربية الصعاليك في القرن التاسع عشر، بل ومن أنبلهم وأشجعهم), ومرة ثانية في نص (أغاني الصعاليك) الذي اشتمل على ست مقطوعات: «أهزوجة» ويعلق فيها الشاعر رفض العبودية والدونية الانسحاق، وكذلك يأتي على ذكر التعرض للخلع والتشرد والضعة والضياع. و»تأبط شراً» وتمتلئ المقطوعة بالإحساس بالحصار الذي يدفع إلى الترحل المنطوي على الحزن والحاجة والمرتعش بلا أمن أو ظل والتوحد بذاته المنكسرة. و»السليك بن السلكة»، و»أبو الطحمان» وفيهما إصرار على التمسك بالصعلكة منهج حياة رغم الخيانات والهزائم. و»الشنفرى» والتي فيها يؤنب القبيلة التي نبذت أبناءها واعتقدت أنها مكتفية بذاتها, وبأنها سوف تكتشف حاجتها إلى من نبذتهم. و»عروة بن الورد» مقطوعته الأخيرة التي يرى فيها بأن الحصول على الحقوق يحتاج أحياناً إلى العنف والإغارة محاطين بالرضى والزهو. وكل تلك الإشارات والمعاني الواردة في المقطوعات الست هي جماع قيم الصعاليك وقانون حياتهم القائم على التشرد والارتحال والإحساس الفادح بالظلم، ومناجزة مجتمع الصلف والقسوة. وتضيف: أما في ديوان (ذئاب الليالي ) فهناك نص (الوصايا الأخيرة لصعلوك بني نفط) وكذلك جاءت لفظة (الصعاليك) وأسماء (عروة والشنفرى والسليك وابن الغرابة) في نص أغنية الولد البدوي الذي جاء مشحوناً بالحنين إلى البراءة والبداوة والنقاء المفقود، حنين يتغلب به على الهمود والبلادة وكآبة المكان. وهنا تغدو الصعلكة أيضاً ارتحالاً عن الثبات والتكرار وتخثر الزمن وانطفاء الإنسان. أما في ديوان (الرعاة على مشارف الفجر) فهناك نص مجرد صعاليك الذي يعبر عن الفجوة بين مظاهر الغنى والمدينة والترف الذي أقصى عنها، بين عالمه المنطوي على توحشه ورفضه وتحديه وانطلاقه - ربما نتيجة الإحساس بقلة الحيلة ورثاء الذات - نحو العنفوان والنبل بحثا عن ملاذ. إنه - دائماً - الرحيل والانبتات عن أولئك الغارقين في صلفهم وترفهم الفاحش ولا مبالاتهم، حين لا عزاء إلا بهذا الرحيل. إن الصعاليك والتماهي بشخوصهم ومسلكهم يبدو ملمحاً مميزاً من ملامح شعر سليمان الفليّح. فهناك ذلك التوجه المستسلم للفقر ورقة الحال والشظف: نعاني التشرد والفقر لا بأس فالدهر إن كان صلباً فليس علاجُ الصلابة إلا الصلابة وتتابع: وهناك ذلك العزوف القسري أو الإقصاء الذي يشبه الحرمان عن الترف والغنى ومشاهد الرفاهية التي يضج بها المترفون ومدنهم الفارهة، في حين ليس للصعلوك غير أن يعيش على هامش هذا البذخ منطوياً على الشدة: ليس للصعاليك الاحتفالات والكرنفالات طقوس الدِّنانِ الثمينة والبزز الباذخة ليس للصعاليك دعوات السفارات أو واجهات المطارات أو بهرج المرأة (الكاشخة) ليس للصعاليك غير ملح البحار ورمل الصحار *** أما في ديوان (رسوم متحركة) على وجه الخصوص فتتضح نزعة السخرية من (أصحاب الدينار) واحتقار غناهم في أشد صورها إثارة. وذلك يكون الغنى مدعاة لإذلال الفقير وسحقة: أذل من دجاجة أقذر من صرصار أحقر من بعوضة أضخم من حمار لكنه : سبحان معطي الرزق لكي نقول الحق جنوده نقوده وسيفه الدينار وفيه ما يكفيه من طيّب الأذكار لكنه خادمه في الليل ويركب العباد في النهار إن (ندرة الدينار) لا تذل الفقير فقط، بل تقصيه أيضاً عن مراتب المجد، وتطفئ شمسه، وتعيده صاغراً إلى حياة الظل: في الزمن السخيف هناك ألف سيف بيني وبين الشمس لا تقطع الأعناق بل تقطع الرغيف وبذلك يتحول غنى الآخرين ورفاههم وما يستوجبه من نفوذ وتسيّد إلى سيف معاناة آخر يقهر الشاعر ويشعره بالصنعة إزاء التبجّح، وبالتقهقر والقماءة إزاء حواجز الاستعلاء: لي رجاء لا تصر سيدي غضّ البصر لست أصلح من نداماك لأني: بالمفيد المختصر كلما عمرك طالا سيدي عمري قصر وتشير «إدريس»: إن نزعة (السخرية المتهكمة) التي خصص لها الشاعر إصداراً منفرداً وهو ديوان (رسوم متحركة) لا شك أنها تنطوي على وجه آخر من وجوه المعاناة. وهذه المعاناة تتضح في عدم القدرة على التأقلم مع واقع شعر بالغبن والاستلاب، ويزيد من الشعور بالانسحاق والضعة، فتتضخم حينذاك الرغبة في رفض الواقع والنيل من رموزه، وإيلامهم بتلك السخرية للاذعة. وكثيراً ما تأخذ هذه السخرية أبعاداً غير مبرّرة وتتحول إلى لون قاتم من السادية الشعورية والتلذذ بالانتقاص. في كل الأحوال السخرية والتهكم التي يتنكها الفليّح لا يشعرك من خلال سخريته وامتعاضه بأنه الأفضل أو الأنقى، بل يتمثل فجيعته الشخصية من خلال هذا الواقع الشائع .. فهو كما في نص (حالة) يشارك أولئك الخور منهم تلوثهم وغثيانهم ويغرق معهم في جو من الجهامة والبلادة والخور والفراغ من الطموح وبهجة الحياة. ومن خلال غرفة بأوحالهم يحلم بشكل ضمني بإمكانية النجاة من خلال الاعتراف والتطهر. وكما ينتقم الصعلوك الجاهلي بالغارة والسلب والنهب وإلحاق الأضرار المادية بمن سلبوه حق الحياة الكريمة ودفعوه للتشرد وشظف العيش، يتخذ صعلوك العصر ما يشبه هذا المسك، إن لم يكن بالغارة الفعلية التي تتطلب الخيل وهدأة الليل وسرعة العدو، فبالذكاء والمسايرة والمداهنة التي تحقق الغاية. والشاعر إذ يعترف بقذارة الفعلة فإنه يراها أهون شراً من التباكي والشكوى: دع البكاء يا أيها الحكاء والشكاء واغنم زمان النصب ثم السلب ثم النهب فأقذر الأشياء في زماننا صارت هي الذكاء

مشاركة :