يشكّل فيل الماموث الذي انقرض منذ ما يزيد على 10 آلاف عام، مصدر دخل رئيسياً لأبناء قرى جمهورية ساخا، المعروفة أكثر باسم منطقة ياقوتيا، وهي كيان في الاتحاد الروسي، يمتد على مساحات شاسعة شمال شرقي سيبيريا، وتقع 40 في المائة من مساحته ضمن القطب المتجمد الشمالي. ويعرف عن ياقوتيا أنها أكبر بمساحتها من كازاخستان، ثاني جمهورية سوفياتية بالمساحة بعد روسيا، وأكبر من الأرجنتين، الثامنة عالمياً بمساحتها، وعلى الرّغم من ذلك، لا يزيد عدد سكان ياقوتيا على مليون نسمة؛ وبذلك فهي الأقل كثافة سكانية في العالم. وتعتمد الشعوب الأصيلة التي تعيش في المنطقة منذ قرون على تربية حيوانات الرنة، فضلاً عن بعض الأعمال الزراعية التي يسمح بها المناخ السيبيري.وتحتوي ياقوتيا على الكثير من الثروات الباطنية، في مقدمتها النفط والغاز، وعلى الرّغم من ذلك فهي تعاني من نسبة بطالة عالية بين سكانها، وغالباً ما تعتمد شركات النفط والغاز على خبرات خارجية، من مناطق أخرى من روسيا؛ لذلك لا تتوفر الكثير من الفرص للسكان المحليين للعمل في هذا المجال. ويُعرف عن ياقوتيا كذلك أنّها المنطقة التي اكتشف العلماء فيها عام 1789، أول جثة كاملة لفيل ماموث، كانت مدفونة تحت طبقات الجليد السميك. وكشفت الدراسات عن أنّ قطعاناً كبيرة جداً من الماموث كانت تستوطن تلك المناطق منذ آلاف السنين. ونظراً للقيمة الفنية التي يتميز بها عظم هذه الفيلة؛ ولا سيما أنيابها الكبيرة الطويلة المعقوفة، وبعد أن أعلنت الأمم المتحدة حظراً عام 2002 على استخراج عظام تلك الفيلة، شهدت منطقة ياقوتيا موجة بحث عن عظام الماموث، يشبهها كثيرون بـ«حمّى الذهب» التي دفعت قرى بأكملها في الولايات المتحدة إلى الانتقال للعيش عند ضفاف أنهر؛ بحثاً عن الذهب.وخلال العقد الماضي اجتاحت القرى الياقوتية «حمى الماموث»، حين أخذ سكان محليون يبحثون عن عظام الماموث ومن ثم بيعها في السوق السوداء. وساعد ارتفاع الطلب في الصين القريبة من ياقوتيا على تطور تلك «الحمى»، وبعد أن كانت عمليات البحث عن تلك العظام تجري كعمل فردي أو ضمن مجموعة من قرية ما، ظهر رجال أعمال، يقومون بتمويل أعمال البحث، ويدفعون معاشات شهرية للعمال، ويأخذون كل ما يُستخرج من عظام وأنياب لبيعها عبر مهربين في السوق الخارجية. إلا أن كميات من تلك الأنياب تبقى في السوق المحلية؛ ذلك أن حرفاً يدوية ظهرت في المنطقة منذ اكتشاف الماموث هناك، ويوجد مهرة يقومون بنحت مختلف التحف الفنية من أنياب الماموث لبيعها في السوق المحلية، أو للخارجية عبر البحارة الذين يصلون إلى موانئ أقصى شرق روسيا.ويستمر موسم استخراج عظام الماموث نحو شهر ونصف الشهر من كل عام، أي في فترة الصيف. والعملية معقدة للغاية؛ إذ تبحث مجموعات «المغامرين» بداية، عن مدافن الماموث، وغالباً يجري البحث وسط تجمعات مائية، إما مستنقعات أو أنهر، وغيره من تجمعات تشكلت نتيجة ذوبان الثلوج، ومن ثم تجري عملية سحب الماء من الموقع بمضخات خاصة، وأخيراً عملية الحفر وصولاً إلى الماموث. ومع أنّ هذا العمل شاق نوعاً ما إلّا أنّه أصبح مصدر دخل لقرى بأكملها في ياقوتيا. وتقدر دراسات وجود نحو 400 ألف طن من أنياب الفيل تحت ثلوج منطقة ياقوتيا، أي نحو 80 في المائة من كمياتها عالمياً. ويُستخرج سنوياً من تحت جليد سيبريا نحو 100 طن من العظام والأنياب، 30 طناً منها تُستخرج بطرق غير قانونية. ويتراوح سعر كيلو غرام أنياب الماموث من النخب الأول ما بين 200 و300 دولار أميركي، أمّا كيلو غرام العظام فيتراوح سعره ما بين 10 و30 دولاراً.ويشعر كثير من السكان المحليين في ياقوتيا الذين أصبح الماموث مصدر عيش لهم بالقلق، بعد إعلان السلطات نيتها تشديد العقوبة عن الاستخراج غير الشرعي للماموث وعظامه. وبموجب القوانين الحالية، يُغرم كل مخالف بمبلغ قدره 3 آلاف روبل، ما يعادل 50 دولاراً. إلاّ أنّ هذه الغرامات لم تساهم في الحد من «حمى الماموث»، وتسعى السلطات المحلية إلى وضع برنامج للتصدي للنشاط غير القانوني في هذا المجال. ويقول علماء مستحاثات: إن استخراج أنياب الماموث بطرق غير شرعية يؤثر سلباً على البحث العلمي؛ لأنّ «المغامرين» يستخرجون العظام التي تشكل مصدر دخل بالنسبة لهم، ويُخرّبون الأجزاء الأخرى من الماموث التي تشكّل قيمة علمية.وبغية تنظيم عمليات استخراج أنياب الماموث من دون أن يترك ذلك أثراً سلبياً على البيئة والبحث العلمي، ومن دون إلحاق الضّرر بالمواطنين الذين يعتمدون على هذا النشاط لتأمين قوتهم اليومي، طرح برلمانيون مشروع قانون حول تنظيم استخراج الماموث، يقدم تسهيلات للحصول على ترخيص رسمي لمزاولة هذا النشاط. ويتوقع أن يؤثر القانون المذكور بصورة إيجابية في ظاهرة «حمى الماموث»؛ لأنّه سيتيح فرصة للعمل بصورة قانونية، وسيتمكن «المغامرون» بهذا الشكل من بيع حصادهم خارج السوق السوداء التي تفرض عليهم عادة أسعارا أقل من السعر الرسمي.
مشاركة :