ربما لا يعرف البعض، أحد عمالة الهندسة في العالم «بديع الزمان أَبو العز بن إسماعيل الجزري»، الذي كان من أوائل من اكتشف "الروبوتات"، أو الآلات ذاتية الدفع. وهذا العبقري خلد ذكره، ليس فقط آلاته، فما أكثر من اخترع واندثر اختراعه، لكنه «التدوين» الذي قام به لأعماله نصاً وصورة. وهي خدمة جليلة، قدمها لمن يأتون بعده، فيدرك الناس كيف يمكن أن يحذو المرء حذوه. فقدم لنا باقة نصائحه، منها كتاب «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل»، المعروض في متحف اللوفر وجامعة أكسفورد وغيرهما. فهذا العالم لو لم يكتب، لربما لم تصلنا فكرة محرك السيارة القائمة على اكتشافه، وهو أن الحركة الدائرية تولد قوة دفع نحو الأمام. وهذا ما قام عليه "عمود الكامات" Camshaft، وهو جزء من محرك السيارة، الذي صنع منه الغرب القطارات البخارية، التي تسير بتلك الحركة، لتفتح آفاق الثورة الصناعية. هذا الكتاب، قيل إن الملك قد طلب منه أن يكتبه للناس ليتعلموا، وقد حدث. فصرنا الآن نشاهد من أشهر مخترعاته «ساعة الفيل»، التي عرضت في أحد مولات الإمارات وجامعة الملك سعود، حيث كانت عبارة عن أعجوبة فنية لمجسم فيل يضربه رجل يقوده، فيصدر صوتاً كل ثلاثين دقيقة، وهي المدة التي تمتلئ بها كرات مثقوبة بدقة، لتطفو بقانون أرخميدس، وتهبط في فمه، فيصدر صوتاً وعرضاً فنياً اعتبر مبهراً آنذاك. وعرفنا من تدوين بديع الزمان، كيف صنع الآلات ذاتية الحركة والهيدروليكية، ومضخات المياه الساحبة والدافعة ذاتياً من مياه الأنهار، من دون الحاجة لقوة دفع من قبل الحيوانات أو البشر. ويروى أنه هو من كان وراء فكرة ساعات التوقيت "ستوب وتش"، التي صارت تستخدم في كل شيء، منها رياضات الجري والسباحة وكرة القدم. وكان ذلك بناء على ساعته الشمعية الدقيقة، التي قيل إن أحداً لم يسبقه إليها في العالم. ومن آلاته أو روبوتاته التي دونها لنا بالصور، اختراعه الذي فاق «مسرح العرائس التقليدي»، وهو فرقة موسيقية تصدر معزوفات حينما تطفو على سطح الماء. وجعلها لعبة لتسلية ضيوف البلاط الملكي. وابتكر آلية عملية تصريف مياه المغاسل، فيها مجسم أنثى بملابس خادمة صغيرة، تملأ الحوض بالماء النظيف، وما إن ينتهي المستخدم فيرفع جزئياً معدنياً، حتى يتم تصريف المياه فورياً، ثم يمتلئ الحوض مجدداً بالماء النقي، وهي شبيه بالمغاسل في عصرنا. ما فعله بديع الزمان، ربما لم يصلنا منه شيء لو لم يكتب ويرسم ذلك بدقة أبهرت الغربيين قبل الشرقيين. وكم من إنسان بديع في فكره وابتكاراته وأنشطته وقراراته ومشاريعه الفذة، لكنه لم يقبل إلحاح من حوله بتدوين ما تيسر من خبرته للأجيال المقبلة. مشكلة المبدعين في كل عصر، أنهم يقللون من شأن أعمالهم، ويعتبرون تدوين أو أرشفة أي عمل هو أمر «لا يليق بهم»!!، فهم يخلطون بين التواضع وضرورة التدوين المنهجي. وينسون أن الجيل المقبل، ربما يكون أسوأ في تلك البلدة أو الوزارة أو الشركة، فيأتي النص المحبوك جيداً، منقذاً لهم في أبسط متاهات العمل اليومي. ولذا، وضعت كبريات الشركات الاستشارية العالمية، خدمة مهمة، وهي تدوين اللوائح أو تأطير كل مشروع في خطوات قابلة للتنفيذ في أي وقت. وشخصياً، حينما أعمل مع فريق مميز، أطلب منه أن يدون خطوات عمل ذلك المشروع، مهما صغر، وإذا تراخوا، أفعل ذلك بنفسي، ليكون عملنا مؤسسياً، يسير على هداه من يأتي بعدنا. فكم من إدارة عليا، أسقط في يدها حينما سافر أو استقال أو أضرب خيرة موظفيها عن العمل. ورب قائل يقول، لماذا ندون، ونحن في عصر التصوير والإنترنت. الإجابة، أن كل عمل رصين، لا بد أن يردف بنص جامع مانع ينقل لمن يأتي بعدنا، فيبدؤون من حيث انتهينا، ولا «يعيدون اكتشاف العجلة». ولذلك، كانت كل اللوائح المؤسسية والقوانين والمشاريع (خطوة بخطوة) مكتوبة، ليسهل الرجوع إليها وتنقيحها. وسيبقى النص المكتوب، مهما تغير شكله الإلكتروني، خالداً، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
مشاركة :