من وسط قاعة العرض السينمائي جاء صوت متردد يتساءل علي استحياء: «هل ما زلت تعيش في مصر؟!» كانت نبرة التساؤل تشي بالهواجس التي يتم ترويجها عن الأوضاع في مصر، وما يقال للسياح إنه من الأفضل ألا يذهبوا إلى هناك. أدرك آلان بيشوب بطل الفيلم الوثائقي «الأيدي الخفية» ما وراء السؤال لذلك كان رده مصحوباً بابتسامة مؤكداً: «نعم، لا أزال أعيش في مصر، وأدعوك لزيارتها، مصر بلد جميلة، شمسها مشرقة ودافئة، وهي تنتظرك وسترحب بك، كما أن الإقامة بها ليست غالية، بل غير مكلفة، وتعتبر اقتصادية للكثيرين. وأنا لا أنكر أنني في كل زياراتي لأي مكان في العالم أُروّج لمصر، لأنها بلد جميلة». بين الفيلم والواقع والحقيقة أن الكلمات السابقة للموسيقي اللبناني- الأميركي تتماس بقوة مع مشاهد عديدة له بالفيلم وليس فقط تلك اللقطة التي يحكي فيها عن حبه لمصر، وكيف أنه يشعر هناك بالسكينة، وأن الفوضى تملأه عندما يكون خارج ذلك المكان. جاء ذلك أثناء النقاش في أعقاب العرض الثاني للفيلم في قسم «الفورم الموسع» في الدورة الحالية لمهرجان برلين، وهو الفيلم المصري الثالث المشارك بالأقسام الموازية بالمهرجان، إلى جانب الفيلم الوثائقي المصري- اللبناني «الجمعية» للمخرجة ريم صالح، والفيلم الروائي القصير «قبل ما أنسى» لمريم مكاوي. أبطال العمل هم أعضاء فرقة «الأيدي الخفية» التي استمدت اسمها من عنوان إحدى الأغنيات التي كتبها بيشوب نفسه، وتنتمي الفرقة لموسيقي الأندرجراوند التي كونها الموسيقي اللبناني- الأميركي آلان بيشوب عندما هبط إلى مصر في أعقاب الربيع العربي ٢٠١١، وتضم ثلاثة آخرين هم آية حميدة ابنة الفنان المصري محمود حميدة، الذي يظهر بالفيلم لدقائق معدودة متحدثاً عن ابنته واهتماماتها بفنون الأداء، وتوجسه- من دون أن ينكر دهشته- في بادئ الأمر من فكرة قيامها مع آخرين بمحاولة ترجمة كلمات الأغاني التي كتبها آلان منذ سنوات بعيدة، ورغبتهم في إعادة غنائها في المجتمع المصري. كان تحفظ حميدة على الفكرة بسبب يقينه أن الترجمة تفقد الكثير من المعنى الأصلي، وأنه مهما كانت دقيقة لكن شيئاً ما من المعنى يسقط عند الترجمة من لغة إلى أخرى. في نفس الوقت تدافع الابنة عن فكرة المشروع، بسبب جدته، وتفرد تلك الصور الخيالية بين كلماتها التي تشعر أنها لم تكن موجودة بالثقافة المصرية. ومع ذلك فهي معبرة عن واقع المجتمع المصري الحالي رغم أن بيشوب كتبها منذ ثلاثين سنة، ثم تستعيد آية تجربتها مع فرقة «اسكندريللا»، وكيف باعدت السياسة بينها وبين الفرقة التي كانت مندمجة معها بالكامل عندما كانت الفرقة مهمومة بالموسيقى، وعندما كان طموحها منصبّاً على الموسيقى فقط، «لكن عندما أسقط الناس في الشارع والميدان على الفرقة كثيراً من الآمال غير الموسيقية وحملوها أكثر من طاقتها وأبعد من الموسيقى بتوريطها في التوجهات السياسية»، هنا، وفي تلك اللحظة فقدت آية اهتمامها بالفرقة ولم تعد ترغب في مواصلة الرحلة معها. المجتمع والفن أما شريف المصري فعازف عود يبدو متفائلاً في حديثه وحكيه عن الأحلام، ويبدو متحققاً رغم الصعاب والعقبات المحيطة. كان شريف ترك مصر في الثالثة من عمره مهاجراً مع والده إلى أميركا لكن هناك كان محاطاً بالأغاني العربية والمصرية الأصيلة، فظهر اهتمامه وشغفه بالعود إلى أن قرر العودة إلى مصر ودراسة العود والموسيقى، واستمر لغاية الآن. بعيداً عن الخط السياسي غير المكتمل، أو بالأحرى المبتور، يحمل الفيلم أيضاً إطلالة على النظرة الاجتماعية للفن حتى من قبل الآباء المتفتحين. ويبدو جلياً من خلال ذلك كيف كانت القواعد أو اللوائح العائلية تتحكم في مصير الأبناء، فوالد أدهم زيدان مثلاً- العضو الثالث في الفرقة- يقول: «لم أكن أرغب في أن يتجه ابني إلى الفن أو الموسيقى، وحاولت أن أثنيه عن ذلك، رغم أن أسرتي فعلت نفس الأمر معي، حاولت منعي من العمل بالفن، لكني عارضتها، ثم ندمت عندما لم أنصت لرأيهم لأني لاحقاً اكتشفت أن المجتمع لا يحترم الفن، كما أنه ليس مصدراً مضموناً لكسب لقمة العيش، خصوصاً هذا النوع من الفن. ولذلك عارضت رغبة أدهم، لكنه أصر وحقق ما أراد». هنا، يترك صناع الفيلم المساحة لكل جيل للتعبير عن رأيه ورؤيته، كلُّ يحكي عن تجربته وخبرته. ومن خلال هذا النقاش يتضح ليس فقط الخلاف والاختلاف ولكن أيضاً دور ذلك الجيل المساند للأبناء، لذلك أيضاً لم يكن مثيراً للدهشة أن يقوم مخرجا العمل بإهداء الفيلم إلى الآباء. والفيلم رغم ما يُؤخذ عليه من ارتباك في البناء الفني، ورغم تطرقه - في شكل غير متماسك أو مترابط فنياً - لشخصيات موسيقية أخرى عملت بالفن وتميزت في خط مغاير لما كان سائداً في المجتمع مثل عمر خورشيد، ثم فرقة «الفور إم» لعزت أبو عوف وأخواته، ورغم أنه لم يكن معبراً عن المستوى السياسي بالقدر ولا بالوضح والنضج الكافي في الرؤية، كما أن العنوان جاء مخادعاً خصوصاً أن من عايش الثورة المصرية وعرف ظروف الاضطرابات التي مرت بها قد يوحي له العنوان بكشف الستار عن أشياء خفية وأيادي كانت تلعب من خلف الستار، لكن لا شيء من هذا أو ذلك يظهر بالفيلم. عمل موسيقي بسيط هو فيلم موسيقي بسيط مباشر ومسلي، حاول مخرجاه، اليونانية مارينا جيوتي واللبناني اليوناني جورج سلامة، أن يمزجا الأغنيات والحوارات المصورة فيه بشذرات مما وقع من أحداث سياسية، وما شهده ميدان التحرير أثناء تصوير الشريط الوثائقي الذي استمر العمل عليه نحو ست سنوات، فقدما لقطات لشوارع مصر وميدان التحرير ومعركة الحرية أثناء حكم العياط والثورة الشعبية عليه، خصوصاً بعد الانتهاكات الدستورية، ومشروع الدستور الذي اعتبره المثقفون اعتداء على حريات المصريين، مثلما استعانا بلقطات أرشيفية جاء تركيبها في ترتيب معين وكأنه يشي بالسخرية من بعض أحاديث المخلوع الثاني، خصوصاً ما يتعلق بحرية الإبداع وأن كلمة «حرية» غير معرّفة، وأن الإبداع «مكفول للجميع في إطار القانون». ثم إقالته للنائب العام مدعياً بأن الإقالة سببها الحفاظ على الثورة وتحقيقاً لمطالب الثورة، ثم سخرية باسم يوسف من تلك الأكاذيب السياسية التي تدعي أن مثل تلك التصرفات اللادستورية هي من أجل الثورة والحرية والثوار. لا تنكر المخرجة أنها مع شريكها سلامة لم يكونا ينويان عمل فيلم سياسي، لكنهما وجدا نفسيهما مضطرين لإضافة الخط السياسي لما كان له من تأثير على الفرقة ومشروعها، وحتى على أبطالها على المستوى النفسي، فآية حميدة تعترف قرب نهاية العمل أنها مصابة بالإحباط، وأنها بعد وقت قليل من بداية الثورة شعرت بأن الظلام مقبل من بعيد، وهو ما أثر على عدم ابتهاجها بصدور ألبوم الفرقة الجديد. ورغم ما سبق فإن «الأيادي الخفية» فيلم ممتع على المستوى الموسيقي لمن يهوى هذا النوع من موسيقى الآندرجراوند، كما أن حديث أبطاله به جاذبية وحميمية وصدق وخفة ظل خصوصاً بشوي بسخريته الحاضرة دوماً.
مشاركة :