يد في الفراغ .. بين الشعر الذاتي وأدب الحرب

  • 2/23/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في ديوانه الشعري السادس "يد في الفراغ" يتجه الشاعر علوان مهدي الجيلاني اتجاهًا ذاتيّا يجعل من الذات محور الرؤية للتعبير عن معاناة تلك الذات الشاعرة وآلامها وطموحاتها وأفراحها في هذه الحياة، هذا الاتجاه الذاتي الذي أطلق عليه إيديث كريزويل في كتابه الرائع "عصر البنيوية" مصطلح "سيكولوجية الأنا"ووصفه بأنّه: "نهج في التحليل النفسي يهتم بالآليات النفسية التي تتوسط العلاقة بين الأنا، وينطلق من فهم الأنا بوصفها نسقا عقلانيا واقعيا لوظائف الشخصية، أو بوصفها وحدة فاعلة تؤلف الفرد وتصوغ تصوره الكلي عن نفسه، مِمّا يفضي إلى التركيز على العمليات التي تقوم بها الأنا في نمو الشخصية"، لهذا لا يُعَدّ هذا الاتجاه الذاتي عيبًا في القصيدة الحديثة. نعرف أنّ بعض المبدعين ينتهجون تيار "الفن للحياة"، حيث يؤمنون بضرورة أن يكون للفن رسالة أخلاقية واجتماعية "فقد تناول بعض الكتاب العديد من القضايا الاجتماعية واعتبروا الفن وسيلة من وسائل الإعلام في جانب منه، وأنّ له وظيفة اجتماعية وتنويرية معًا"، لكن هذا لا يلغي دور الذات باعتبارها المحور الأساسي في التعبير عن أيّة تجربة إبداعية، من هنا كان تعبير الشاعر عن نفسه في قصيدة "قلقلة" حيث يقول: "هل ترى أيها الشاعر آخرَ هذا المجاز، كلُّهم يمضغون أسونتهم وينمُّون، كلهم يلعنون الذي في عيونك من رهقِ الجاذبية.. - القصائدَ والفتيات.. - العفيفَ ومقهى النخيل. عذابَكَ في دورة لا قرار لها .. أنت لا شيء يا أيها الولد المستريح ... لا شيء... غير فتىً عاطلٍ من فنون الإدارة. لا شيء... غير فتىً ساذجٍ ليس يفهم ما يفهم الناس. لا شيء... تدخل ظهراً كما تخرج الصبح. طفل رتيبٌ يحب الحداثةَ يسقط خارج لعبتنا. تخذل الناس والبلد الذي يرتجيك". ثم نلمس تمرد تلك الذات الشاعرة على كل شيء وإيمانها أنّ النوافذ خلقت لتفتح وليس لغلقها، ويأتي هذا التمرد من دوافع الإحساس بالتشيؤ والوحدة مع الشعور بالاختلاف فيقول في نفس القصيدة (ص35-36): "أشعر أن العفونةَ تخرج من أذنيَّ وليس من البيت.. كلما صحتُ في وجهها - زوجتي إنّ هذي النوافذَ للفتح لا تغلقيها .. عيرتني ... بأن الحداثةَ والحبرَ قد أفسدا شعر أنفي.. وأن الصديقاتِ عودنني أن أشمَّ عطور الغواية. إذن.. لن يطلَّ على وجعي غير علوان.. علوان يختلف – الآن - عن سادة الوقت .. عن أصدقائي وعن زوجتي .. وعن كلِّ واحدةٍ ألصقت ثديها بذراعي في سلم البيت أو في الأسانسير، أو زحمة الباص. هكذا سوف أجلس وحدي سوف أجهز طباً من الورق البضّ أبدأ بقراءة من كذبوا واحداً واحداً...". لكن بقراءة فاحصة دقيقة لقصائد الديوان يمكن أن نقول عنه إنّه ينتمي لأدب الحرب، بمفهوم يختلف عن المعنى الكلاسيكي الذي يقوم بوصف الحروب وويلاتها ويغرس في الناس الحماس، أو موقفًا ما منها، ليكونوا معها أو ضدها، بلهجة خطابية تقريرية مباشرة، لا، لأنّ الشاعر هنا يبرز الظلال الإنسانية للحرب وانعكاساتها على الذات الشاعرة والواقع المحيط بها حتى لو لم يذكر اسم الحرب صراحةً، فيكفي أن نرى مدى حب الشاعر للحياة والخير، والكراهية للحرب والفقد والموت كما في قصيدة "عادة" (ص 47) حيث يقول: "يحمل المتقاتلون عُدَّتَهم من الادعاءات الكبرى. يحمل المتقاتلون زادهم من الأناشيد الخادعهْ. يحمل المتقاتلون ذخيرتهم من الكبرياء المنتفخهْ. يترك المتقاتلون إنسانيتهم تذكارات لأمهاتٍ يغزلنها ألماً بين أصابع منخورةٍ بالموت". كما نجد تعرية وفضح النظم السياسية والاقتصادية في قصيدة "انطفاءات" (ص 22-23) حيث يقول: "منذ أيامٍ قررنا استبدالَ مدرسةِ ابنتنا الخاصة بمدرسةٍ حكومية .. ألغينا من قائمةِ اهتماماتنا كلَّ المناسباتِ الخاصة.. العشاءاتِ النادرةَ في المطاعم استضافةَ القادمين من البلاد كبشَ عيد الأضحى ويئسنا تمـ اااماً من شراء جهاز كمبيوتر ثم اكتشفنا أن نارَ الحبِّ لم تعد تشتعلُ في سريرنا". كما يعزز من تلك القراءة تخصيص الشاعر لعدد من قصائد الديوان للرثاء، تلك القصائد التي أراد بها الانتصار للحياة في مواجهة الموت، مثل "اليتيمة – مصطفى مات – يد في الفراغ – وكل ما كتبه عن رحيل الأب من قصائد". ليصبح حب الذات للحياة وإحساس الذات بقيمتها، مع كراهيتها للحرب والفقد والموت هي البنية المسيطرة الدالة داخل الديوان، ولها مرجعية اجتماعية واقعية من حياة الشاعر وهي ما تعانيه اليمن الآن، ليصبح المنهج البنيوي التوليدي عند لوسيان جولدمان أحد المناهج النقدية التي ربما تصلح لقراءة هذا الديوان الثري فنيّا. لكن تلك القراءة لا يمكن أن نجزم أنّها الوحيدة الصحيحة بسبب طبيعة المعجم الشعري القائم على الرمزية التي تجعل "أيّة محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن هذا المعنى تذهب أدراج الرياح" بتعبير راؤول إيشلمان في سياق حديثه عن نصوص بعد ما بعد الحداثة. والذات الشاعرة هنا ليست سلبية تكتفي بالبكاء والعويل أو الرضوخ والاستسلام لواقع الحرب/الفقد، بل تحاول وضع الحلول التي تخفف من وطأة وعبء الآثار الناجمة عنها، وكانت "النوستالجيا" بالحنين إلى الماضي وذكرياته من بين تلك الحلول، فيقول في قصيدة "ضوء الأعماق" (ص 16-17): "بارتعاشٍ خفيفٍ نصغي للأوهامِ الضائعة الأوهامِ التي تَزَلَّخَتْ كمناقير طيورٍ تحفر الصخر نتكئ لبعض الوقتِ على أطلالنا سرابِ الذكريات الراكضِ هناك إبرةٌ رهيفةُ السنِّ تغوصُ تحت جلدنا إنها وجوهُ أحبّتنا الذاهبين ستتشكلُ على مهلٍ ستعرينا من عبوديتنا للحياة ستخبرنا عن عذوبةٍ الفناء عن ممالك عاليةٍ لا ينطفئ فيها النور". كما يجعل الشاعر من الشعر الملاذ الأكبر للذات الشاعرة، وتبدّى هذا في أولى قصائد الديوان التي تناولت دور الشعر والشاعر معًا، في مفارقة بين العنوان والمتن، مفارقة تحمل المرارة و السخرية، حيث يقول في (ص 8-9): "منذُ سنتينِ لم أعدْ شاعراً ومن ثَمَّ لم أعدْ أحداً ليس منَ الممكنِ أن أجدَ نفسي لنجلسَ معاً كما كنا نفعلُ قبلَ سنتينْ نكذبُ على بعضْ نجمّلُ وجودنا المسكينَ بدهشةِ الكلامْ". • على المستوى الفنيّ: اعتمد الشاعر على بعض الآليات للتعبير عن رؤيته منها: - التفكيك: حيث نجد تقسيم الديوان إلى أربعة أجزاء، كل جزء يتكون من عدد من القصائد، وتنقسم معظم القصائد لعدد من المقاطع، وكأنّ الشاعر يريد ضمنيّاً من تلك البنية أن يرمز لتفكك العالم إلى تفاصيله الصغيرة، باعتبار أنّ الحياة مجموعة من تلك التفاصيل، وقد أشار الشاعر إلى ذلك في قصيدته "نصف العالم" مستخدمًا التكرار لكلمة الإشارات التي أراها معادلاً موضوعيًا للتفاصيل التي تُعتبَر العالم كله وليس نصفه فقط، فيقول في (ص 45): "الإشاراتُ الوحشيةُ التي يتبادلها رجالٌ قلقون. الإشاراتُ الجزعةُ التي تتقاطع بلا أشواق الإشاراتُ التي تَجمح في الأصابعِ والانفجارات الإشاراتُ التي تصطخب كي لا تبدو منهزمة. الإشاراتُ التي أخشنها الاحتكاكُ بالآخر المَعْرُور. الإشاراتُ المتآكلةُ بالحقدِ والضغينة. الإشاراتُ المنهومةُ بدمويةِ اللاشيء. الإشارات التي تلطم أرواحنا بعنفِ عَمَاها الإشاراتُ التي ليست ماءً ولا تربة ومع ذلك فهي نصفُ العالمِ تماماً". - توظيف السؤال الذي يعكس قلق الذات الشاعرة، وباعتبار السؤال بداية المعرفة، فيقول في قصيدة "أميّة الطين" (ص 84-85): "لم أفكر: هل تهجتني ممرات الحديقةْ أو رآني العشبُ موتوراً بعينيك اللتين اختالتا حين اشتهيتُ مَن يجاري حزمة النّار التي حاذت دمي؟ مَن يغطيني بفولاذ التَّأنِّي إذ أرى مالا يرى الناسُ؟ كأني لست في الطين ولا في الماءِ أصغي لسيوفٍ تطعن الروحَ وأمشي في بياضٍ يفتحُ النفس وأحيا وأموتُ". - التكرار: الذي استخدمه الشاعر وكأنّه يلحّ على القارئ كي يوصّل له رؤيته ويوضحها، كما في قصيدة "تنكّر" (ص 49) حيث يقول: "ثمةَ من يضعُ العالمَ على طاولةِ مكتبه ثمة من يعلِّق خارطةَ الموتِ على جدرانِ العالم. ثمة من تقدح عيونُهُ في حوافِّ القارات. ثمة من يأخذ الحياة من الكونِ إلى برودة فمه. ثمة من يرتب لجنازتنا بهدوءٍ وصبر. ثمة من يخشى أن يتذكّرَ فعلته. كي لا يزعجَ أرواحَ الموتى". - توظيف الصورة الكليّة بكل تفاصيلها وعناصرها كما في قصيدة حملت عنوان "القصيدة" (ص 94) حيث يقول: "أيّها القلبُ .. أين القصيدة..!؟ أين الكلامُ المحدّبُ كالموجْ..؟ الكلامُ الذي كان يتبعني.. أينما سارتِ الرّوح الكلامُ الذي كان يمنحُ عينيَّ زرقَتهُ والذي كان يخضَرُّ فوق البياض .. الكلامُ الذي كان ينشَقُّ مثل الغمامةِ كيْ أشربَ الضوء من لمعانِ الشموس..!!ا". من هنا فإنّ ديوان "يد في الفراغ" يعبّر عن رؤية الشاعر علوان مهدي الجيلاني التي تقوم على التعبير عن الذات، وعرض الظلال الإنسانية لآثار الحرب عليها وعلى الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لنلمس رفض الذات الشاعرة للحرب وآثارها، وتنتصر بالنوستالجيا مع الشعر على معاني الفقد والموت، في قصيدة تهتم بالخيال الكلي، والتفكيك، وتوظيف السؤال، مع السرد الشعري القائم على التكثيف الدلالي وإن استخدم التكرار أحيانًا.

مشاركة :