كان يا ما كان.. مكان

  • 2/24/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قَعْفَزَتْ النسوةُ على المصْطَبة حولَ المغسلةِ كاشفاتٍ عن سُوقِهِن السمر الغليظة، وانحيننَ بصدورهنَ العامرةِ على غُلَّةٍ السَمَكِ ومِيرةِ الخُضار تُقَلبنها بين أيديهنَ المُشَمرةَ تنظيفاً. وجوههنَ الفَطْسَاءُ الصارمةُ تركيزاً تَنْضَحُ عَرَقاً تَمسحنَهُ، بينَ تهليلٍ وحَوقَلة، متى ما سَالَ عنْ الأنوفِ والأذقانِ بالملافع. إحداهنَ تُغَرْبِلُ رُزاً من مَنسَفٍ، تَهُزهُ بين يديها ثُمَ تكادُ تَرمي بِه إلى الأعلى فَتَرتَفِعَ الحباتُ في سَحَابةٍ من غُبار، ثّمَ تُلقي، لِحَماماتٍ تَنقُرُ الترابَ مُتلهفةً، بمَا عابَ الأرزَ من شَلٍّ وحشرات.لمْ يَكُن سواها ليختبيءَ في الحُجرةِ الشمالية: تَسترقُ النظرَ على النَسوةِ المقعياتِ في الليوان، لا تَستَبينُ منهنَ، من بينِ تَعَرشٍ الياسمينةِ التي لمْ تُزهِر بعد، سوى قُحُفٍ سَوداء مُتَلفِعة، وأيدٍ مُخضبةٍ بالحناء تُجَلجِلُ في سواعدها أساورُ من ذهبْ، مَشغُولةً بأحشاءِ السَمَكِ ورُؤوسِ البصل، أو تَحتَجبُ عن النَظَرِ منَ الناحيةِ الأخرى، تَلقُفُ الهَواءَ من الدَواري، بينما تطلُ على فريج الجامع. أيامَ الجُمَعْ تترقبُ جَمعاً مُثقَلَ الكواهلْ، مُهمهِماً خَاشِعاً، يَسْتَحِثُ الخُطى بعد الصلاةِ من مسجد عيسى بن علي إلى مقبرةِ البُسيتين. تَخْتَلي رِفْقَةً كتاب. تَسْتَلقي على ظهرها تُطَالعُ المَنْكَرور، يَتَسَربُ منهُ على غيرِ عجلٍ تُرابٌ يَلتَمِعُ في نُزولِه حين يَلتَقي بما أفاضتْ به الشَمسُ من ضَوءٍ على الحجرة. لمْ يَكُن لحُصُر السّعَفِ وما رُصَّ من الدَنْجلِ والخَيزُران أنْ يُوقفَ تَسَللَ التراب. تُصيخُ سمعها لحسيسِ جَلابيبٍ تَذْرَعُ الغُرفةَ جيئةُ وذَهاباً، مُطرقةَ حيناً، تَقذفُ حصاً لا يرتدُ عن الجدرانْ، بغضبٍ أو بضجرٍ، أحياناً أخرى. الجو مكتومٌ لا يكادُ يُطيقُ اهتزاز أجنحةِ الذبابِ وطنينها، مُشبعٌ برائحةِ البُن، ما زالتْ بعضُ حباتهِ على المِحْماس. صرَّت عجلاتُ سيارةٍ في مكانٍ غيرِ بعيد، وارتعشتْ، رغمَ انطباقِ الجو، الياسمينة. اسْتَشرَفَتْ من آخر الدَواري سُوقَ الخَارو، وقَدْ حُبِستْ أنفاسه: أخْرَسَ الصريرُ الصَخَبَ، وأوقَفَ الخُطَى، مِنها خُطَى صِبْيةٌ حُفَاةٌ تَمَنطقوا بحَوَاشيّ أثْوابِهم، فبَدَت سيقانٌ مُجَدَّرةٌ ناحلة في سراويلها الُمهلهلة، بينما أطبَقَت قَبضَاتهم على عُلَبِ كبريتٍ أفْرِغتْ من أعوادها ودُسّت فيها خنافسٌ من فَحمٍ أسود. بعدَ أنْ أقشعرَ بَدَنُها بالروعِ وغَصَّتْ حُنجرتُها بصَرَخاتها، لَمْ تَعُدْ تَسْمَعُ دَبِيبَ الخنافسِ التي هرعتْ خلفها من فريج بن هندي تَنْهَبُ الأمتارَ القليلةَ إلى فريج البوخَميس. مُسْجَّاةً على الأسفلت، يَسْفَعُ القارُ الذي أنْضَجَتهُ شَمسُ الضُحى جِلدَها، ويَتَقَدَدُ الألم.يَبُشُّ وجهها المَلفوحُ دَمعاً بابتسامة، وهي تَحْجُلُ عائدةً إلى البيتِ الكبير، فتتأرجحُ عنْ جانبي رأسها جديلتيها الدُّجى، تُمَسدُ براحتيها نُقُوشَ البابِ حينَ يئنُ معترضاً على تحريرها صَدَأ المِزْلاج. وتَلِج الدهليز. في الحجرة الطويلة تَروَّح الرجال بمهفّاتِ السعفِ مضطجعين، مسندي رؤوسهم حاسرةً على أذرعٌ وأكفٌ مكدودة بالكاد جفّ عرقها، تُغَالبُ وسَنَ القيظ. وبين نحنحةٍ وأخرى، تَتَمهلُ حبّاتُ مسِبَحةٍ ما في دورانها في فُلكِ أصابعٍ مُخَوتَمَةٍ أحرازاً من فِضة: فيروزٌ في الخنصرِ، وياقوتٌ في البنصر. فيما قَطَعَ رنينُ فَنَاجينِ القهوةِ وما تكادُ تَفِيضُ به من هَالٍ دَلّةُ النحاس غَطيطاً مُنهكاً بدأ يعلو، وتمَطّقتْ أفواهٌ ناعسةٌ بلُقَمٍ خَضراءَ ساخنة لا تُستطابُ إلا بخبزٍ أشدَ منها سخونة. مُكابداً سَأَمَ القائلةِ ومستجيراً من الحَرِّ بظلْ الياسمينة، تَمَطى قطٌ أسود وانْشَغَلَ هُنَيهةً يَلعَقُ قوائمه. بَرْكَعَتْ على أربعٍ تَكْنُسُ بمريلةِ المدرسةِ الترابَ وذَرَقَ الطيور لتَمُدَ يدها في جُحْرٍ تَتَحَسسُ زَغَباً أعمى، ويَتَحسسُها بدوره. تَوقَفَتْ عَن دندنةِ لَحنٍ أطربها على وقعِ أنعلٍ تُخلعُ في حَوشٍ مَفروشٍ بالصبّان. ارتفعَ الأذانُ من مسجدِ سيادي، وبدأت سياراتُ المصلين تُركَنُ على عَجَلٍ حيثُ كانت ذكريات الطفولة وسنوات الصبا، إذ أنهُ كان يا مكان، على ذاتِ الأرضِ، وفي نفسِ المكان، كانَ البيتُ الكبير.

مشاركة :