صالح العنزي|● إسماعيل فهد إسماعيل كانت تجربة الغزو العراقي المريرة بحاجة الى عمل ملحمي تتهيأ له كل الاسباب الفنية التي ترتقي به الى مستوى الكارثة، لكن ذلك لم يتوافر في معظم النصوص الروائية التي كتبت عن الغزو، بل ان بعضها لم تتوافر له مقومات الرواية في الأصل، وانما جاء كمحاولة لتدوين تجربة حقيقية من اجل حفظها من الضياع او النسيان، حيث قد يكون رأي الراوي ضرورة اثباتها للتاريخ والاجيال كمهمة أساسية، فكانت مثل هذه الأعمال اشبه بنقل الاحداث كما هي وكأنها أقرب الى اليوميات أو البانوراما، وهي حالة تستحق التقدير دون شك، لكننا هنا امام تقييم فني للاعمال التي اراد اصحابها توثيق التجربة، فالفرق كبير بين تقديم اعمال تثبت الحدث وتحفظ اجزاءه من النسيان، وأثر هذا الحدث في استنهاض مكامن الإبداع لدى الروائيين الكويتيين. لو استفاد بعض الروائيين من الروايات الملحمية العالمية الكبرى التي أتت بعد بعض التجارب الجماهيرية المريرة؛ مثل رواية «الحرب والسلام» لتولستوي التي وثقت مرحلة الاعتداء الفرنسي على روسيا إبان حكم نابليون بونابرت، او كما «غاتسبي» العظيم للاميركي فيتزجيرالد، التي عالجت حالة المجتمع الاميركي في فترة عشرينات القرن الماضي الصاخبة، و«الدكتور زيفاكو» لباسترناك التي عالجت الاستبداد الشيوعي في روسيا بعد الحرب الكونية الثانية، والكثير من الأعمال المشابهة التي أتت بعد مخاضات اجتماعية او سياسية او عسكرية كبيرة ومؤثرة، لكانت النتيجة مختلفة. التسرع في التوثيق تم انجاز معظم الاعمال التي اطلعت عليها في السنوات القليلة التي تلت الغزو العراقي مباشرة، وهي حالة قد تشير الى التسرع غير المبرر في انجاز النص، وقد تشير الى الرغبة في إثبات المشاركة دون التركيز على نوعها، وقد تشير الى بعض الاستنتاجات الأخرى، وهو الأمر الذي سينتج عنه تواضع بعض النصوص او عدم اكتمال بعضها بالصورة المقنعة؛ حيث ان الشروع في الكتابة الروائية حول كارثة الغزو قبل توافر المادة التاريخية وقبل تكامل الفكرة وقبل اكتمال صورة البناء الكلي للنص، الذي سيكون أساسه المهارة في تميز الأمكنة والأشخاص والاحداث التي تروي الوقائع الحقيقية، وربطها باللوازم الخيالية التي يتم تكييفها لتخدم النص وتعطيه القوة الروائية، حيث ان هذا الشروع في الكتابة بهذه الوضعية يربك الكاتب ويحرم النص من الروح الصادقة التي تملؤه بالحياة وتجعل منه نصاً قابلاً للبقاء طويلا والخلود في الذاكرة لسنوات، والذي سيستحق ان يوصف بالرواية التي تروي «حكاية الغزو». وكان حرياً ببعض من كتب عن الغزو التريث لسنوات حتى يخرج من الوقوع في فخ التأثر النفسي بأيام الغزو وأحداثها التي استمرت لسنوات تعيش في ذاكرة الكتاب الذين عاشوها، حيث إن من الضرورة ان يكون الكاتب مؤثرا بالاحداث لا متأثرا بها، لأن دور الروائي الحقيقي الذي يريد ان يروي حدثا حقيقيا بطريقة تحفظ له الخلود ان يصنع الحدث بمواصفات حقيقية، لا ان يروي حدثا حقيقيا كما هو او كما رآه، أو بمعنى آخر ان يكتب رواية معتمدا على خياله ويدخل فيها اشخاصا وامكنة واحداثا حقيقية، ولن يتحقق ذلك الا بالخروج من دائرة التأثر والتبعية والاستسلام للحقيقة المجردة أولا، ثم البدء بإدخال الحقيقة مجزأة بمواقعها التي اختارها لها الكاتب ضمن مساحة خيال النص. ولكي يتخلص الروائي من معضلة فقدان الأحداث لحرارتها ينبغي أن يعمل على اضفاء الروح الملحمية للنص، او صناعة أجواء مشاركة القارئ في العملية البنائية له بشكلها الواهم، اما معضلة نسيان الاحداث الحقيقية كليا او جزئيا، وهي المعضلة التي ربما جعلت البعض يتسرع في الكتابة، فكان بالإمكان ان يتخلص الكاتب منها بان يقوم بتدوين الاحداث صوتيا او خطيا كمادة تاريخية بطريقة تقليدية مؤقتة لحفظها من النسيان او الاحتفاظ بها كاملة، من دون فقدان بعض أجزائها لكي يلجأ لها حين تخونه الذاكرة في تذكر شخص او مكان او حدث. العمر القصير للكتابات ولعل من الظلم تحديد قضية عدم قدرة الرواية الكويتية على البقاء في الذاكرة طويلا، بخصوص الرواية التي عالجت قضية الغزو العراقي فقط، لأن الذاكرة الثقافية الكويتية أصلاً لم تحتفظ بعدد كبير من الروايات الكويتية التي أُنجزت طوال عقود مضت، وباستثناء «وسمية تخرج من البحر» و«بدرية» و«ساق البامبو» وروايتين او ثلاث أخريات لم تحتفظ الذاكرة الثقافية الكويتية بروايات اخرى. وبالتالي فإن القول بأن ندرة كتابة رواية كويتية خالدة سببه ندرة المبدعين قول قد يكون واقعيا ومصيباً، لكن القول بعدم وجود بيئة ثقافية تساعد على الابداع قول ربما يكون غير دقيق، والا لما بقيت الروايات المذكورة آنفاً في الذاكرة طويلا، وبالتالي فلو أن الرواية التي عالجت كارثة الغزو قد حملت مقومات الخلود من خلال توافر العناصر الفنية والروح والوعي والقدرة على مخاطبة اكبر شريحة من القراء، من خلال القدرة على التعامل مع فوارق التفكير بينهم ومن خلال تقديم شخصيات متنوعة تعكس تنوع توجهات وطباع ومزاج الافراد والشرائح والفئات، لاحتفظت بها الذاكرة. إحداثيات زمن العزلة تعتبر سباعية «احداثيات زمن العزلة» العمل الروائي الأكبر الذي عالج أيام الغزو العراقي للروائي الكويتي الكبير اسماعيل فهد اسماعيل، وتقع الرواية في سبعة اجزاء هي: الشمس في برج الحوت، والحياة وجه آخر، وقيد الأشياء، ودوائر الاستحالة، وذاكرة الحضور، والابابيليون والعصف. وربما تكون «احداثيات زمن العزلة» الرواية الأطول التي كتبت بالعربية، ويمكننا من خلال الشخصية المحورية في الرواية (سلطان) ان نتعايش مع مجموعة الفهود المقاومة للاحتلال، والشيوخ الذين يمثلون الشرعية والخطر المحيط بالناس والظروف المعيشية ومعاناة الأجانب والتكاتف المجتمعي، لكن صوت المقاومة كان غاية في الوضوح، وروح التضحية كانت الصورة المهيمنة. «ليست الشجاعة أن تحمل بندقيتك وتقاوم.. الشجاعة أن ترتهن حياتك تحدياً يوازي وجودك». و«احداثيات زمن العزلة» عمل روائي كبير نشرت أجزاؤه كاملة عام ،1996 ولأننا عرفنا الروائي الكبير اسماعيل فهد اسماعيل غزير الانتاج، حيث كان ينتهي من كتابة رواية او روايتين في العام الواحد فإني أتوقع انه قد شرع بكتابة السباعية منذ عام 1992 فأنجزها كاملة خلال خمس سنوات، ويبدو من حجمها أنها أخذت جهداً كبيراً ووقتا تم ضغطه بقوة، فأتت عملاً شاملاً غنياً وإن عازه الجاذبية والتشويق، وربما كان العامل الأبرز الذي افتقده هذا العمل الكبير هو عامل المدة الكافية لتجهيز واعداد عمل روائي متكامل، والذي كان سيخدم النص بطريقة مثالية لو وفق الأديب الكبير له بشكل أفضل مما كان، إذ لو أن هذا العمل قد أخذ حقه من التجهيز للمادة والاشخاص بشكل متأنٍ يصل إلى حد شعور الكاتب بأنه لن يحتاج إلى مادة إضافية بعد الشروع في الكتابة، لكانت السباعية قد أتت متكاملة ومتناسبة مع فداحة الكارثة ومع نتائج هذه الكارثة على الكويت والعراق والشرق الأوسط ككل، وهو ما يعني ان السباعية ستتأخر لعشر سنوات إضافية قبل نشرها، ومع ذلك فإن «إحداثيات زمن العزلة» تبقى العمل الروائي الكويتي الأبرز الذي خلد الغزو في ذاكرة القارئ بشكل تقارب مع الحقيقة وحاكاها وهو أمر يستحق الإشادة والتقدير معاً.
مشاركة :