أدب الرحلات بين الجغرافيا والإبداع

  • 5/20/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أدب الرحلات هو النثر الأدبي الذي يتخذ من الرحلة موضوعاً، أو بمعنى آخر: الرحلة عندما تكتب في شكل أدبي نثري متميز، وفي لغة خاصة، ومن خلال تصور بناء فني له ملامحه وسماته الفنية المستقلة. إذا كان المستشرقون الروس يرجعون هذا اللون من الكتابة إلى القرن العاشر الميلادي، فإن المكتبة العربية تؤكد أنه ظل ممتداً ومستمراً حتى وقتنا الراهن، بل إنه ازدهر وشهد تطوراً في الموضوع والرؤية، والهدف منه، واللغة التي يكتب بها، إذ من الملاحظ أن عدداً كبيراً من الكتاب المعاصرين، يحرصون بين لحظة وأخرى، على أن يدونوا رحلاتهم ومشاهداتهم وما يلاحظونه في تنقلاتهم هنا وهناك، وذلك في كتب مستقلة لها طابعها الخاص. ولعل ما يساعد هؤلاء الكتاب أن وسائل الاتصال الحديثة والسماوات المفتوحة وتكنولوجيا المعلومات، وعالمنا الذي أصبح قرية واحدة؛ كل ذلك قد يسر الانتقال من أقصى الأرض، بل بعيداً عن الأرض حيث يوجد القمر. أضف إلى ذلك أنهم يستعينون في كتابتهم لرحلاتهم بالصور والمعلومات والوثائق، وكذلك التشويق والترغيب والمقارنة، والخبرة، والثقافة، والرؤية، وهي بالتأكيد كتابات تختلف كثيراً عن تلك الكتابات التي تركها لنا أعلام الأدب ورواده. إن الذي يقرأ كتابات أستاذنا الدكتور حسين فوزي التي تدور حول الرحلة، مثل (سندباد مصري) و(سندباد في سيارة) و(سندباد عصري) و(حديث السندباد القديم). أو يقرأ كتب المبدع محمود تيمور (أبو الهول يطير) و(شمس وليل). وكتابات أستاذنا الصحفي أنيس منصور المتنوعة في هذا الجانب مثل: (حول العالم في 200 يوم) و(اليمن ذلك المجهول) و(بلاد الله خلق الله) و(أعجب الرحلات في التاريخ). والرحالة أحمد محمد حسنين باشا (في صحراء ليبيا). والشاعر طاهر أبو فاشا (وراء تمثال الحرية). والرحالة الأديب أمين الريحاني (المغرب الأقصى). والدكتور مصطفى محمود (مغامرات في الصحراء) و(الغابة). والقاص عبد الفتاح رزق (مسافر على الموج) و(رحلة إلى شمس المغرب). والقاص خيري شلبي (فلاح مصري في بلاد الفرنجة)... إلخ... أقول لكم: إن من يقرأ هذه الكتابات، وغيرها كثير مما يصعب حصره، سوف يلاحظ تطور هذا اللون من الكتابة النثرية الأدبية، وهناك من درس هذا اللون من الأدب منذ الفتح الإسلامي حتى عصرنا الحديث، وفيه اقتراب من عالم كل رحالة، مع إعطاء صورة عامة عن الظروف التي أحاطت بالرحلة وبكاتبها وبالكتاب نفسه، ثم عرض الرحلة من خلال نصوص من كتب الرحلة ذاتها. إن دراسة أدب الرحلات تستلزم منا البحث في كل رحلة على حدة، من حيث هي بناء فني وإبداع أدبي، له أسسه الخاصة، وملامحه الذاتية التي تميزه عن غيره من فنون الأدب الأخرى التي قد تشترك معه في بعض الخصائص والسمات، وهذا هو المنطلق الذي ينبغي أن تنطلق منه أية دراسة موضوعية لهذا اللون من الأدب، فنحن عندما نتعامل مع هذا الأدب باعتباره شكلاً فنياً خاصاً، خير ألف مرة من التعامل معه باعتباره تسجيلاً جغرافياً، مما يخرجه من دائرة الأدب. وهذا يتيح لنا فرصة استكناه أو سبر غور كل عمل، وجلاء ما يتميز به، وما أضافه، كما يسمح بالمقارنة بين الأعمال المختلفة، بل إنه يكشف عن الاتجاهات المتباينة لأدب الرحلات وفقاً لما تتضمنه كل رحلة، فهناك رحلات ذات اتجاه ديني، وأخرى ذات اتجاه جغرافي ليس غير، وثالثة ذات اتجاه حضاري، ورابعة كتبت بقصد تدوين الرحلة في حد ذاتها .. وهكذا.. وهذا ما يستدعي تصنيفاً موضوعياً للرحلات، ودراسة فنية لها في ضوء هذا التصنيف، ولعل ذلك مما يجعل الباحث يدع جانباً ما أشيع من أن معظم ما كتبه الأجداد العرب في هذا الجانب أدب جغرافي بحت، كما قال بذلك البحاثة الروس، وغيرهم من الباحثين العرب، وهذا المصطلح يلزمنا بدراسته وتحديد مفهومه ودلالته والانتهاء من تحديد موقف علمي واضح منه، وبالطبع هذا يتأتى من قبل كل من يتعرض للكتابة عن أدب الرحلات. وعندما ينتهي الباحث أو الدارس من تحديد موقفه من المصطلح، يبدأ في تحديد رؤية الكاتب الرحالة، ثم ما كان يستوقفه ويلفت نظره ويقف عنده طويلاً... هل كانت تشغله المعالم الحضارية كالآثار والمعابد والمتاحف والمساجد والكنائس، والأماكن التاريخية فيصفها وصفاً مطولاً ويستطرد في ذكر كل ما يتصل بها من تواريخ وأعلام ووقائع، أم كان همه الأوحد هو وصف الأماكن من حيث موقعها الجغرافي، وما تتسم به، وفيم تتشابه، وفيم تختلف، وتأثير العوامل الطبيعية فيها؟ وهناك من الرحالة من كان يستهدف الاتصال بالسلطان أو الحاكم فيشغل به عمن عاداه، وهناك من كان يحرص على لقاء العلماء والأدباء وأهل الفكر والرأي في البلدان التي يمر بها في رحلته، وكان هذا يستغرق كل وقته فيعطيه مساحة أكبر داخل نص الرحلة. أمر آخر وهو مسألة موقف الكاتب الرحالة من الطبقات الاجتماعية ومن الناس العاديين أو المهمشين الذين كان يصادفهم، نظرته إليهم، دراسته لأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، اقترابه من فهم أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم، ومعرفة وسائل معيشتهم، وطرائق حياتهم اليومية والعلاقات الاجتماعية بين الطبقات، وما شابه ذلك.. وهذه مسائل مهمة تلزم دراستها عند التصدي لموضوع الرحلة في الأدب العربي. ونؤكد هنا على أنه يتبع ما سبق بيان عنصر الصدق في الرحلة التي نحللها وجلاء الحقيقة أين تكون: أحداثاً ووقائع وأماكن وأناساً، وما هو دور الخيال، إذ ربما تكون الحقيقة جانباً هامشياً، وتترك الخيال كي يؤدي أهم الأدوار. ويؤدي مدون أو كاتب الرحلة أو راويها دوراً هو الآخر، فصاحب الرحلة، في بعض الأحيان لم يكن يقوم بكتابتها بنفسه، إذ كان يمليها أحياناً، أو يرويها لمن يقوم بإملائها أحياناً، وفي الحالين هناك كاتب للرحلة ليس هو صاحبها بطبيعة الحال، وكلنا يعلم أن السلطان أبا عنان سلطان فاس بالمغرب العربي وفر للرحالة ابن بطوطة محرراً أدبياً من كتاب ديوانه هو (ابن جزي) ليقوم بتدوين رحلة ابن بطوطة. وهذا يطالبنا بتحليل معمق لبيان دور كاتب الرحلة أو مدونها، واستخلاص خصائص أسلوبه إن كانت له بصمات واضحة، وذلك لتحديد سمات أسلوب صاحب الرحلة الأصلي، ولن يتأتى هذا إلا بدراسة نقدية لكتابات كل منهما في ميادين أخرى. وأخيراً وليس آخراً يأتي البناء الفني للرحلة أو ما نسميه معمارها الأدبي، فلكل رحلة بداية ونهاية، نحلل ونحاول أن نفهم: كيف جاءت البداية؟ وكيف وفق الكاتب إلى النهاية؟ وهل هي نهاية فنية أم أنها نهاية تقليدية، حكمها عنصر الزمن؟

مشاركة :