ما من فلسطيني لا يُدرك أن قرارات الرئيس دونالد ترامب الخاصة بالقدس، تأتي في إطار محاباة الدولة العبرية والانحياز الكامل إلى الرواية الصهيونية على حساب السردية الفلسطينية، وأن هذه القرارات ليست بعيدة من تأثير اليهود من رجال الرئيس، من صهره جاريد كوشنير، ومبعوث السلام جيسون غرينبلات، إلى السفير ديفيد فريدمان، أو من المسيحيانيين الإنجيليين من حوله، مثل نائبه مايك بنس. المؤسف أن الرئيس الأميركي يحتال، بهذه القرارات، للخروج من أزمات داخلية، من الانتخابات النصفية للكونغرس إلى «الملف الروسي» وغيرهما، وأيضاً لتحقيق «انتصارات» إعلامية تحت شعار تحقيق وعوده الانتخابية. وطبعاً المستفيد الأول من تسارع القرارات هو إسرائيل، على حساب الفلسطينيين والعرب، وحتى على حساب أميركا التي وجدت نفسها معزولة في موقفها عن بقية دول العالم. المحزن أيضاً هو قرار تقديم موعد نقل السفارة الأميركية إلى القدس من موعده المحدد نهاية عام ٢٠١٩، إلى منتصف أيار (مايو) المقبل، ليتزامن مع ذكرى النكبة الفلسطينية، وبحيث يبدو تضامناً أميركياً مع إسرائيل في الذكرى السبعين لتأسيسها. فهل تعمدت أميركا استباق «وعد تحرير القدس» (على سبيل المثال) الذي ربما كان العرب والفلسطينيون يعدون له العدّة عام 2019؟! ليس المقصود هنا التقليل من أهمية الرد على قرار ترامب وتأثيره المادي والمعنوي، بل الإشارة المؤلمة إلى غياب استراتيجيا فلسطينية وعربية وإسلامية لمواجهة أخطار التهويد الإسرائيلي، ليس للقدس وحدها بل لكل فلسطين مرموزاً إليها بالمدينة المقدسة. المقصود أيضاً الإشارة إلى تراكم مجمل الأسباب، فلسطينياً وإقليمياً ودولياً، التي جعلت القدس ومستقبلها مسألة هامشية. لا تفسير لقرار تقديم موعد نقل السفارة سوى الاستفزاز المهين المتعمد، بل المكايدة على طريقة «نكد الضرائر» رداً على إصرار الرئيس محمود عباس على رفض الرعاية الأميركية المنفردة لعملية السلام، والخطاب الذي تلاه بهذا المعنى أمام مجلس الأمن أخيراً، ومقاطعته كلمة السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي أمام المجلس. يكفي أن نشير إلى خطابات الطرفين الإسرائيلي والأميركي أمام المجلس والتي افتقدت الحد الأدنى من السياسة والكياسة الديبلوماسية، والمضي في مناكدة كيدية بدءاً من انضمام غرينبلات وكوشنير إلى فريق هايلي، بما يُعرف عنهما من تطرف في دعم إسرائيل، مروراً بالتضليل المعلوماتي الذي أورده المندوب الإسرائيلي. وليس المقصود أيضاً تحميل عباس المسؤولية لأن تقديم موعد نقل السفارة ما هو إلا تحصيل حاصل بعد قرار ترامب الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، فـ «هل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها»؟ ولكن يجب عدم إغفال أهمية خطاب عباس، تحديداً في نقاشات اليوم التالي في مجلس الأمن للتداول في شأن خطة السلام والحل الأمثل للصراع العربي- الإسرائيلي في ضوء الخطاب. بدا واضحاً حجم التأييد الدولي، من مندوبي القوى العظمى، لحل يقوم على دولة فلسطينية بحدود حزيران (يونيو) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا في حد ذاته يجدد حيوية القرارات الدولية الصادرة في هذا الشأن. وربما هو نكسة دولية لدعاة الدولة الواحدة من الطرف الفلسطيني تحديداً. الاستراتيجيا المطلوبة الآن كعلاج سريع هي الاستثمار عربياً في قرارات مجلس الأمن، وفي النقاشات التي دارت في اليوم التالي لخطاب عباس وتقديمه خريطة طريق عقلانية. فهذه النقاشات منحت التحرك الفلسطيني في رفض «صفقة العصر» والتحيّز الأميركي لإسرائيل، شرعية دولية ستفرض نفسها على رؤى الحلول المقترحة، وستشكل مدخلاً لحماية دولية مطلوبة، وهذا فعل ديبلوماسي يكاد يعادل مؤتمراً دولياً. المطلوب الآن منع تحوّل نقل السفارة نكبةً تُذكّر بالنكبة.
مشاركة :