لا يتوقف طاهر الزهراني عن الكتابة إلا من أجل الراحة لخوض تجربة أخرى، فهو ينطلق في أعماله الروائية من وعيه الخاص بأهمية الاشتغال على تاريخ المكان وحكاياته وأساطيره باعتبارها حاملا ثقافيا يمتلك كل المقومات الإنسانية للوصول إلى القارئ العالمي، جاعلا من التداخلات التاريخية في الجغرافيا رافعة للسرد. القرية والكتابة يدرك الزهراني كل الإدراك أن الرواية الحقيقية هي تلك التي ينطلق فيها الروائي من المنطقة التي يعلمها، ربما تكون تلك المنطقة مشغولة بعوالم موغلة في اللغة المحلية ذات المفردات والمناخات والحكايات الخاصة، لكنها تمتلك في المقابل حكايتها الإنسانية الأصيلة القادرة على تجاوز الجغرافيا معانقة القارئ بمعزل عن أنساقه المنتمي لها على مستوى المكان والتاريخ. وهذا ما يستشعره القارئ في مجموعته القصصية “الصندقة”، وفي بقية أعماله الروائية الستة السابقة، ابتداء من رواية “جانجي” 2007، وانتهاء برواية “الفيومي” 2017. وعن هذا الشأن يعلّق الزهراني بالقول “والدايّ نزحا من القرية إلى المدينة لأسباب معيشية، أنا ولدت في جدة، وترعرعت في حواريها، هذا الأمر كان له انعكاس على الكتابة، المكان يسهم بشكل كبير جدا في إثراء التجربة، وأنا لا أكتب إلا عن مكان أعرفه حق المعرفة، لهذا أغلب رواياتي تدور ما بين الحارة والقرية”. القدرة على كتابة ما يشبهنا دون الحاجة إلى استعارة عوالم الآخرين من أجل سردها في مشهدية منبتة الصلة عن الواقع الذي نعيشه، لعلّ هذه الصفة هي واحدة من أهم الملامح التي تميّز تجربة الروائي السعودي طاهر الزهراني، حيث يحتفي في اشتغالاته القصصية والروائية ببيئته المحلية التي يؤمن بقدرة عوالمها الإنسانية على الإدهاش، وعلى صناعة مفارقة سردية حقيقية. “العرب” توقفت معه في حوار حول تجربته الروائية وبعض القضايا الثقافية الأخرى ويضيف “في جدة تنوع بشري هائل، وثري، وفي المقابل هناك ارتباط قوي بالقرية تكرسه اللغة والإرث والعادات، ثم إن القرية مسرح نموذجي للكتابة، فهناك فضاء مفتوح، والتصاق بالبيئة والكائنات، وبعث دائم للإرث والحكايات، وعندما أكتب عن القرية فأنا أكتب عن مكان خصب للحكي، وتحضر فيه أغلب العناصر الأساسية للسرد بإذعان شديد. أثرت هذا الكلام من قبل، وظن البعض أني أحاول تأطير الكتابة بالشعبي، والقروي، وليس هذا ما أقصده، ما أقصده أن كل كاتب لو انطلق من بيئته لحصل الثراء الإبداعي الذي نسعى إليه، خاصة أنني أتحدث عن بلد مترامي الأطراف”. ويتابع ضيفنا “دعني أقول شيئا لمسته مؤخرا في بعض الكتابات، لقد قرأت أعمالا مؤخرا كل عناصرها مستوردة، تصور أن بعض الكتابات وصل بها الحال أن تكون لغتها أشبه ما تكون بلغة الأعمال المترجمة، صحيح أن اللغة وسيلة، لكن لا يعني هذا أن تكون مسخا، أنا أريد كتابة تشبهنا، تعنينا، وليس هذا حائل دون الأفكار الإنسانية الخلاقة التي نبحث عنها، والتي لها أجنحة لتعبر الجغرافيا، وهذا ما يطالب به أي قارئ للأدب”. يذهب بعض الكتاب إلى أن مناخات جنوب المملكة مازالت مفتقرة للحفر السردي الحقيقي الجاد والمتواصل، القادر على استنطاق التاريخ من أجل الوقوف على حقيقة الأنساق الثقافية الحاضرة. ولعل معظم ما كتب عن الجنوب سرديا كان متعالقا مع فكرة تفكيك الحاضر انطلاقا من فهمنا للتاريخ القريب والبعيد له. ويرى الزهراني أن أغلب ما كتب عن الجنوب هو من قبيل الحنين، يقول “لقد سمعت حكايات من جدتي، وأحداثا كبيرة وقعت في قريتنا الصغيرة، وكذلك قرأت في بعض المسودات التي خطها أبي وقائع مثيرة، كل هذه الأمور تدل على أن الجنوب لم يكتب بشكل حقيقي، أتحدث معك عن قرية صغيرة تقع في حلق وادي في تهامة، فما بالك بالجنوب كله”. ويتابع متحدثا عن رواية “الفيومي” التي تدور أحداثها في الجنوب “روايتي ‘الفيومي‘ كتبتها حين سمعت أن لنا جدة قدمت من الفيوم أثناء الحج، ومات جميع أهلها بعد وباء اجتاح مكة، فوجدها حاج من ديارنا، وأخذها معه، ورباها حتى كبرت، وزوجها، هذه المرأة لو سمعت القبيلة التي قامت برعايتها أن زوجها أغضبها، قد يأتون بسيوفهم وبنادقهم لنصرتها، لك أن تتخيل مدى عمق هذا الحس الإنساني الذي كان القوم يتحلون به، لقد كان الرجل الذي يتزوج من امرأة من قبيلة أخرى أو مدينة بعيدة كبصرة، كان هذا مصدر فخر وتباه كبيرا، وقد ينتسب ذريتها لها، وليس لوالدهم”. ويلفت الزهراني “سوف أصرح بشيء لم أصرح به من قبل، روايتي التي أعمل عليها الآن تتحدث عن زراعة التبغ في الجنوب، والمنع الذي حدث بعد ذلك، أقول هذا الكلام فقط لنعرف أن الجنوب مترع بالحكايات، كما قلت من قبل القرية هي مسرح للأحداث عندي، وليست مجرد حائط مبكى للحنين، وتذكر أيام الرعي”. الرواية السعودية تسليط الضوء على تعقيدات الأنساق الثقافية القبلية رواية “الفيومي” الصادرة بشراكة ثلاثية بين منشورات ضفاف بلبنان ومجاز بالأردن، والاختلاف بالجزائر عام 2017، تسلط الضوء على تعقيدات الأنساق الثقافية القبلية في ما يتعلّق بكفاءة النسب، وهي قضية شائكة في المحاكم السعودية، وفي نظام الأحوال المدنية. هذه المنطقة السردية قادتنا إلى سؤال ضيفنا الزهراني عن رأيه في قدرة الرواية أو السينما أو الفعل الثقافي بصورة عامة على أن يغيّر هذا الواقع عبر تفكيك أنساقه. يجيب الكاتب “الفنون مؤثرة لا شك، والفن هو الشيء الوحيد القادر على اختراق الوعي، وهذا لا يعني أن مهمة الفنون تغيير المجتمعات، هذا ليس دور الفن، الفن يترك ضوءا في الروح، وخزة في الضمير، الفن يحتج، يسلط الضوء أحيانا لكنه لا يغير المجتمعات، تغيير المجتمع بحاجة إلى روافد كثيرة حتى يتغير، بحيث لو انطلقت صرخة إنسانية تلقاها المجتمع كطوق نجاة، لست متشائما، لكن الناظر إلى حالنا، وحال بعض المجتمعات العربية يجد أننا لا نزال في مؤخرة الركب، نحتاج إلى عقود، ربما إلى قرون، لهذا لا يسعف الفنان والكاتب إلا أن يعتزل ليمارس فنه، وما يرضي ضميره، ويكون عزاء لمن يبحث عن فضاء يتنفس فيه”. وعن قراءته للمشهد الروائي السعودي المعاصر يقول الزهراني “ربما نتفق جميعا على أن الأعمال الجيدة قليلة، ليس في العالم العربي فقط، بل في جميع أنحاء العالم، إذا اتفقنا على هذا، فإن الرواية المحلية تسير وفق هذا المنظور، الجيد منها قليل، كذلك الأسماء التي تكتب بفن، لكن هذه القلة لا بد أن نعوّل عليها كثيرا، فهي بحاجة إلى عناية واهتمام، وتسليط ضوء، خصوصا في ظل الحضور والمنافسة في الجوائز التي تعنى بالسرد، صحيح أن الجوائز ليست مقياسا على جودة الأعمال، لكنها ساهمت في لفت النظر إلى سردنا المحلي، فعندما تحضر الرواية السعودية في قائمة البوكر الطويلة، أو تنافس في القائمة القصيرة، أو تفوز بالجائزة، هذا دليل على أن هناك تجربة حاضرة تنافس. الذي يعجبني في المشهد الروائي المحلي هو استمرار أسماء من الجيل الشاب في الكتابة، وجعل كتابة الرواية مشروع حياة، رغم ظروف العيش المنهكة، وضغوط الحياة التي لا تنتهي”.
مشاركة :