بعد تشخيص هذا الواقع المميز لآليات تشكيل وضوابط حركة منظمات المجتمع البحريني، وفي ضوء القناعة الراسخة بأن هذه المنظمات وجدت لتبقى، ولكي تمارس دورها المهني المطلوب منها، والمناط بها في آن، يمكن سرد الضوابط والمتطلبات التي تحتاجها هذه المنظمة من أجل تعزيز أدوارها، ولكي يتسنى لها الوصول إلى المستوى الذي يليق بها، والذي يمكنها من القيام بمهامها على الوجه الأفضل، وفي النطاق الأكثر اتساعا وشمولية. ويمكن تلخيص مثل ذلك التشخيص في النقاط التالية: 1. مقاومة الإمعان في التسييس الذي من الطبيعي أن تواجهها من قبل مكونات العمل السياسي البحريني، هذه المقاومة لا تعني بناء حالة عداء بين منظمات المجتمع المدني، وتلك المكونات السياسية، بقدر ما هو رسم حدود واضحة وجلية تميز طرق تكوين منظمات المجتمع المدني، وتحميها من محاولات حرفها عن طريقها المهني، نحو مسالك أخرى. وهنا ينبغي التمييز الدقيق بين مقاومة الإمعان في التسييس التي نحذر منه، وبين مقاطعة كل ما هو سياسي، بل وربما محاربته. خيط رفيع يفصل بين الإثنين، وأحد معايير تعزيز دور منظمات المجتمع المدني، يكمن في مهارة المنظمة في الاحتفاظ بتوازنها وهي تسير فوق السلك الدقيق الذي يفصل بين المساحتين. 2. التمسك بالمهنية الأصيلة البعيدة كل البعد عن بريق الشهرة التي يوفرها الانخراط، البعيد عن المهنية المجتمعية، في العمل السياسي. مثل هذا التمسك سيرشد المنظمة الباحثة عن النجاح القائم على تحقيق الأهداف من بناء منظمة قوية البنيان، قادرة، في كل خطوة تخطوها، على وضع مكوناتها المهنية نصب عينيها، وتحاشي الانحراف عن الطريق القادر على إيصالها إلى أهدافها المهنية والمجتمعية التي تبحث عنها، بعيدا عن أية التواءات غير مبررة، ولا تضحيات غير مدروسة. وهنا ينبغي التحذير أيضا من التحول غير الواعي نحو التقديس غير المنطقي لما يمكن أن يوصف بالمهنية، التي يحلو للبعض الترويج لها كي يقلص من مساحة دائرة نشاطات المنظمة المعنية، أو يقزم دورها المجتمعي. 3. ترسيخ قيم الاستقلالية المالية، بالاعتماد، إلى أبعد مدى ممكن، على الموارد المالية الذاتية التي تولدها أنشطة المنظمة المعنية والفعاليات التي تقوم بها، والمشاريع التي تتبناها. وهنا ينبغي توخي الحذر والتمسك بالدقة في التمييز بين قيم الاستقلالية، وسلوك المقاطعة. فليس المطلوب عزل المنظمة نفسها عن كل ما هو حق لها، طالما القبول بالمساعدة المالية لا يعني التدخل في شؤونها الداخلية، أو القبول بما يمكن أن يفقدها بوصلة إرشادها نحو الأهداف التي نذرت نفسها من أجل تحقيقها. وعندما تنجح المنظمة في تحقيق المعادلة المطلوبة بين قبول الدعم، دون التفريط في الاعتماد الرئيس على مواردها الذاتية، سينعكس ذلك إيجابًا على القدرات المالية للمنظمة، وسيوفر لها الاستقلالية التي تبحث عنها. 4. التحلي بقيم التعايش مع الآخر والقبول به، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمنظمات المجتمع المدني ذات الخلفية الدينية. ليس المطلوب هنا الذوبان في ذلك الآخر، بقدر ما هو الحرص على القبول بما يدعو له، طالما، لم يتجاوز ذلك حدود العقد الاجتماعي الذي يوفره الدستور، وتنظمه القوانين. بل ربما لا يقف الأمر عند القبول به، بل الحرص على التعاون معه، من أجل إزالة جدران الجفوة التي يمكن أن يكون قد شيدها من لا يمتون للدين بأية صلة. توازن دقيق يحفظ للدين قدسيته واحترامه، وينقل أداء من يؤمنون به نحو مستوى أكثر تحضرًا، سيعزز من دور مثل هذه المنظمات. 5. توخي الحيطة والحذر عند التعامل مع المؤسسات الدولية والإقليمية التي تبدو وكأنها تبحث عما هو مشترك بينها وبين منظمة المجتمع المدني المعنية، وتبدأ في نسج علاقات مميزة معها، حتى تتمكن من السيطرة عليها، وتوجيهها نحو أهداف تلك المنظمة الدولية أو الإقليمية، والتي ليست بالضرورة متناغمة مع تلك التي تبحث عنها المنظمة الوطنية. مرة أخرى ليس المطلوب هنا تبني موقف عدائي من تلك المنظمات، لكن بالقدر ذاته، ينبغي المراجعة المستمرة الناقدة المتحررة من النظرة الدونية لكل ما هو أجنبي من جهة، وتحديد هوامش التطابق ومساحات الاختلاف مع كل ما هو أجنبي من جهة أخرى. والحديث هنا عن تلك المنظمات الدولية والإقليمية غير المرتبطة بالدوائر الاستخباراتية، وعددها قليل، ومن الصعوبة بمكان وجود منظمات دولية او إقليمية تنشط في الخارج بعيدًا عن نفوذ تلك الدوائر. 6. محاربة الشيخوخة، سواء في طرق الإدارة، أو عند بناء الهياكل الإدارية، أو حتى عند وضع الخطط وتنفيذ المشاريع. مثل هذا التوجه سيدفع المنظمة نحو البحث عن مخزونها الشبابي من الموارد البشرية، وستجد المنظمة، متى ما وضعت نصب عينيها محاربة الشيخوخة، انها، بشكل موضوعي وتلقائي، تجدد نفسها ذاتيًا منن خلال استقطاب المزيد من الموارد البشرية الشابة والمبدعة في آن. مرة أخرى ينبغي التحذير من مغبة تحول المنظمة هنا نحو حرب غير مطلوبة ضد الكوادر المسنة (نسبيًا). فمثل هذه الخطوة مضرة بالمنظمة، وتحرمها من الخبرات الغنية التي راكمها الجيل الأول، والتي هي في أمس الحاجة لها كي تنقل تلك التجربة من جيل إلى آخر. فمراكمة الخبرات ونقلها عبر الأجيال، تشكل في جوهرها أكبر رأسمال تملكه المنظمة، وتستطيع ان تجيره لصالح الكثير من المشروعات المبدعة التي تتلاقح فيها خبرات المتقدمين في السن، مع طموحات من هم في عمر الشباب من أجبال المستقبل. فالتطلع نحو المستقبل، لا ينبغي، بأي شكل من الأشكال، وأد الحاضر المستنير، ولا نسف الماضي العريق. تلك كانت أهم، وربما أكثر مداخل تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في بناء مجتمع بحريني متحضر، قادر على أن يصل إلى المكانة التي يستحقها بين صفوف المجتمعات المتحضرة ذات المنظمات المدنية المتطورة.
مشاركة :