أدت تلك الأسباب التي أوردناها في الحلقة الأولى، أحيانا بشكل جماعي متظافر، وفي أحيان أخرى على نحو منفرد في إضعاف العلاقة السليمة المطلوبة بين منظمات المجتمع المدني من جانب والسلطة التشريعية من جانب آخر. ولكي تستقيم هذه العلاقة، وتأخذ مجراها الطبيعي، ودورها الصحيح ينبغي توفر الظروف الموضوعية التالية: · كف يد مكونات العمل السياسي بأطرافها كافة، من إدارات دولة وقوى سياسية معارضة ( بكسر الراء) عن الاستمرار في الإمعان في تسييس منظمات المجتمع المدني، دون ان يعني ذلك حجب حقها كمؤسسات، وحق أعضائها كأفراد عن ممارسة حقوقهم السياسية، لكن في الإطار التنظيمي الذي لا يشوه دور منظمات المجتمع المدني السياسي الصحيح. ولا بد من الاعتراف أن الوصول إلى مثل هذه المعادلة الصحية القابلة للتطبيق مهمة صعبة ومعقدة في آن، خاصة عندما تطبق في مجتمعات لا يحظى مواطنوها بحقوقهم الديمقراطية كاملة. · إشاعة الديمقراطية في صفوف المجتمع. وهنا ينبغي التأكيد على المسافة الشاسعة التي تفصل الديمقراطية عن البرلمانية، التي غالبا ما تختلط صورتاهما في أذهان، ومن ثم سلوك من يمارس العمل السياسي، أو من ينخرط في أنشطة منظمات المجتمع المدني. ففي حالات كثيرة نكتشف أن من ينجح في الوصول إلى المقعد البرلماني، هم أكثر الناس بعدا عن ممارسة الديمقراطية في حياتهم اليومية. والعكس صحيح، حيث نجد أن هناك من يتصدر مشهد منظمات المجتمع المدني، وهم أكثر الناس إمعانا في تسييسه، ومن ثم تشويه المسؤولية الديمقراطية التي يفترض أن تمارسها منظمات المجتمع المدني. ومن العوامل العامة، ننتقل إلى تلك الخاصة المتعلقة بفهم طرفي العلاقة: السلطة التشريعية ومنظمات المجتمع المدني، ذات العلاقة بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل منهما، وكلاهما من أجل تقويم العلاقة بينهما. فعلى مستوى منظمات المجتمع المدني، وهي الأكثر تأثيرا في تغيير مجرى العلاقة، بشكل إيجابي، ينبغي لها أن تسارع، في إطار تقويم العلاقة على النحو المطلوب، إلى إنجاز ما يلي: 1. نشر الوعي السليم بمهمات منظمات المجتمع المدني، والمسؤوليات المنوطة بها، والأهداف المطالبة بالعمل من أجل تحقيقها. هذا الفهم الذي يجعل منظمات المجتمع المدني، منهمكة في التصدي للدفاع عن حقوق ومصالح الفئة الاجتماعية التي تمثلها، وتعبر عن متطلباتها، تحرص على حماية نفسها من كل مشروعات الإمعان في التسييس التي تمارس بحقها من جانب، وتحول، في الوقت ذاته، وبالقدر ذاته عن كل مساعي تشويه العلاقة السليمة التي يجب أن تقوم بينها وبين السلطة التشريعية. وسيكتشف الطرفان حينها قنوات التكامل التي تحقق أهداف كل منهما بشكل مستقل، بعد أن تملأ مساحات العمل المشترك بينهما بشكل واعٍ، ومثمر. 2. الحرص على ضمان منظمات المجتمع المدني، كل منها في ميدان اختصاصه وفي إطار الفئة المجتمعية التي يمثلها ويدافع عن حقوقها، القيام بدور قنوات التواصل بين السلطة التشريعية وتلك الفئات المجتمعية، على أن يضمن ذلك تدفق مكونات هذه العلاقة في اتجاهين متوازيين غير متعارضين. مثل هذه القناة باتجاهيها المتوازيين توصل الجميع إلى الأهداف التي تسعى لتحقيقها منظمات المجتمع المدني من جهة، وتضمن للسلطة التشريعية ممارسة دورها المناط بها من جهة ثانية. عملية الاستقبال والتلقي هذه، وعبر تلك القناة، بحاجة إلى منظمات مجتمع مدني حية ودينامية، وسلطة تشريعية مسؤولة وجريئة وواعية، وقادرة على تلبية حاجة المواطن إلى التشريعات الحيوية التي تضمن له حقوقه، دون تفريطه في واجباته. 3. امتلاك المرونة المطلوبة التي لا تحجب عنها ممارسة دورها السياسي الذي لا يتجاوز حدوده، فيتيح الفرصة أمام محاولات الإمعان في التسييس، ولا يحرم نفسه من المشاركة في العملية السياسية، بما فيها تلك التي تمس صلب المسؤوليات التشريعية الملقاة على عاتق السلطة التشريعية. مرة أخرى هنا يجب على منظمات المجتمع المدني والسلطة التشريعية، بشكل مشترك، وكل منهما في مجال اختصاصه، الوقوف بشدة وحزم امام محاولات الإمعان في التسييس من جهة، أو مساعي حرمان منظمات المجتمع المدني من ممارسة حقها السياسي من جهة ثانية. من جانب آخر، ولكي تستقيم العلاقة على النحو المطلوب، سوف تجد السلطة التشريعية، متى ما كانت باحثة بشكل جدي عن علاقة سليمة مع منظمات المجتمع المدني، أن تبادر للقيام بما يلي: 1. أن تقتنع السلطة التنفيذية بشكل متجذر وراسخ، ودون أية ضبابية، بالدور الكبير الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني في تعزيز مواقع السلطة التشريعية ليس في صفوف المواطنين فحسب، وإنما في دوائر السلطتين الأخريين: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. ومن ثم، فمهما بلغ شأن السلطة التشريعية في قدرتها على ممارسة دورها، لكنها سوف تظل قوتها تلك محدودة، وذات تأثير محصور في دوائر ضيقة، ما لم تعتمد، وبشكل كبير على عضلات منظمات المجتمع المدني القادرة على نقل مشروعات السلطة التنفيذية، وخاصة ذات الثقل الاستراتيجي، من حجرات تلك السلطة الضيقة، إلى رحاب المجتمع الواسع. ولا يقف الأمر عند تلك الحدود، بل يشمل ذلك أيضا توفير الحماية التي تحتاجها تلك المشروعات، والاستمرارية التي لا تستغنني عنها. 2. بناء الثقة المطلوبة البناءة التي تجعل من منظمات المجتمع المدني ليس مجرد العين الساهرة التي تدافع عن التشريعات التي تسنها السلطة التشريعية، لكنها أيضا الأذن الصاغية التي تزود تلك السلطة بما تحتاجه من مادة خام تساعدها على ممارسة دورها التشريعي على النحو الأفضل، والجلد الحساس القادر على جس نبض الشارع وتلمس احتياجاته. والمقصود هنا ليس الاحتياجات الخدمية، وإنما تلك التشريعية. 3. سن التشريعات، واستحداث مشروعات القوانين التي من شأنها تحقيق الحماية التي تحتاجها منظمات المجتمع المدني، التي تكفل لها الحيوية المطلوبة التي تضمن لها ممارسة مسؤولياتها المدنية بعيدا عن الملاحقات القضائية، أو «الفزاعات» الأمنية، وبالقدر ذاتها التي تبعدها عن الانخراط، بوعي أو بدون وعي، في أنشطة تعرضها لتجاوز ما هو حق مشروع لها. مثل هذه الممارسة من لدن السلطة التشريعية تبني السياج الحاضن لتلك المنظمات الذي يضمن لها الترعرع في بيئة سليمة تؤهلها للقيام بدورها على النحو الصحيح، والسير في الاتجاه الذي يوصلها إلى أهدافها.
مشاركة :