إعداد: محمد هاني عطوي العصور الحديثة لها علاماتها منها من بين أمور أخرى، اختفاء المخطوطات، والأرشيف المادي نفسه، والذاكرة الصلبة الملموسة، والحرف والرسالة القديمة، والفيلم المستخدم في التصوير، إلخ. وبالتالي يأتي السؤال: هل الرقمنة تعني فقدان الذاكرة؟ وهل يمكن أن يحدث ذلك؟ هذا ما يحذر منه بعض المفكرين الذين يرون أن الإنترنت، والتخزين الرقمي هما خطر كبير ضد الإنسانية، إذ يكفي أن يحدث شيء ما حتى يختفي كل شيء من ذكرياتنا، حاول الكثيرون من رواد الرقمنة مضاعفة الحلول عن طريق الذاكرة «السحابية»، والأقراص الصلبة الخارجية، لكننا جميعاً نعيش القلق أو واقع الشطب أو المسح، وفقدان البيانات، والصور، وسرقة الحواسيب الصغيرة، والتلف بالماء أو نسيان الكمبيوتر الشخصي في إحدى الرحلات. كل ذلك لأن الأرشيف البشري، مع العالم الرقمي، أصبح متخماً، غازياً، وحشياً، ولكن في نفس الوقت هشاً، وغير مستقر، وخطير. ويمكن القول إن هناك ضماناً أكبر في الأقراص السومرية أو الرسم الصخري أو العمود الروماني مما هو عليه في القرص الصلب، الأسوأ من ذلك أن الأرشيف الرقمي يدفع نحو اللامبالاة بدلاً من تنمية المعرفة أو الفضول. فعدد الصور التي يخزنها الهاتف الذكي اليوم دفعت بنا نحو المبالغة في التقاط الصورة الشخصية (السيلفي)، ولكن أيضاً نحو السلوك ذلك المشين وهو (اللامبالاة)، فمن منا لديه الوقت كي يتصفح ألبوم العطلة أو الأسرة على جهاز الكمبيوتر الخاص به اللهم إلا للتخفيف عن ذاكرة الجهاز؟ ومن لديه الوقت لتكريس مشاعره أو تقاسم اللحظات الودية أو الحميمة مع الأسرة ليشاهد بعد عودته من الرحلة العدد الكبير من الصور التي التقطها؟ إننا بتنا من كثرة التقاطنا للصور، لا نشاهدها أبداً، ونحن جميعاً نعرف ذلك بل نعيش تناقض زحمة اللحظات الماضية، إننا ببساطة لم نعد نعيش الأحداث أو المشاعر، ولكن نعيش فرصة التقاطها كصور لاعتقادنا أننا سوف نتمتع في مشاهدتها في وقت لاحق، لكن دون أن نفعل ذلك أبداً، لقد أصبح كل منا يستعرض غروره، بل إننا خلقنا لأنفسنا لامبالاة سعيدة، وفي النهاية، أصبح التواكل مدمراً للبداهة أو الحدس. لقد أصبح العالم مجرد خلفية ثانوية لأن اللحظة المعيشة والمصورة، باتت وعداً ربما تعود إليه يوم ما، ولكن دون أن نفعل ذلك أبداً. إن التكنولوجيا الرقمية قتلت الأشياء الجليلة التابعة للقرون الثلاثة الماضية، وهي المخطوطة أو النص المطبوع ومع موت هذه ماتت روعة «الإصدارات الأولى» للرواية، ومات أرشيف الناشرين.ونحن نتساءل: على ماذا سيعمل الباحثون في المستقبل عندما لا يجدون أمامهم سوى النسخ النهائية لأي عمل، وربما لن يكون لديهم عمل سوى نفض الغبار عنه لأن الملف النهائي الرقمي سوف يسحق كل ما سبقه من أعمال مكتوبة، وأني أتذكر هذه اللحظة النادرة التي تمكّنت فيها من تصفح مخطوطة «أسطورة سيزيف» في جامعة يال قبل ثلاث سنوات. لقد كان ماثلاً أمامي في المخطوطة الشطب، والتردد، ولمحات الغضب على هذا السطر أو ذاك، وعمليات تصريف الأفعال والخط، وأخيراً ثقل المخطوطة نفسها. كنت أتفحص بعيني كل شيء أتلمسه وأشتم منه عبق التاريخ. اليوم، وغداً، لن يكون هذا العمل أكثر من مجرد قطعة أثرية من الماضي، أو كرسم محفور على صخرة. إن العالم الرقمي مسح من حياتنا الألبوم الأسري، والمخطوطة، والأرشيف، وكذلك الزمن بل ومسح آلية الإبداع، والجهد. إنه انتزاع للطابع المادي عن المادة فالرقمنة التي تقدم لنا كل شيء تقريباً باتت ماثلة في حياتنا بشكل كلي، حتى أنها انتزعت منا أمن الذاكرة، وتقاسم العلاقة الحميمة بيننا كأفراد، وألغت دورات الإبداع الأدبي، وآثار البحث، وعلم الآثار في المستقبل، باختصار، لقد انتزعت منا الإنسان. إن الخطر الأكبر الذي واجهته الإنسانية هو حين تخلت عن الصخرة، أو عظم الكتف التدوين أي ورق البردي، والورق. ولعلنا نشهد بأعيننا على أكبر عملية حرق للعلم فنحن نحرق كل الكتب والكتابات والمحفوظات، معتقدين أننا نقوم بإنقاذها. إننا نتخيل فقط وفي جنون هذا الكرب، ذلك «اليوم التالي» the day after وظهور العبارة المشهورة على شاشة الكمبيوتر: «هذا الملف معطوب» أو ذلك الحادث المفاجئ الذي سيمس الجميع عندما تكون كل ذاكرة الإنسان مقفلة بكلمة سر جماعية منسية!.
مشاركة :