[عاصرت سبعةً من ملوك المملكة العربية السعودية، الى تاريخه: عبدالعزيز؛ سعود؛ فيصل؛ خالد؛ فهد؛ عبدالله؛ و سلمان..و لكن، و إضافة لمجرد ‘معاصرتهم’، فمنهم من كنت ايضاً قد قابلته، و صافحته و جلست في حضوره؛ بل و تعشيت في معيته. و الفئة الأخيرة شملت الملك خالد و الملك فهد؛ و الملك سلمان.] * ** *(5) الملك فهد بن عبدالعزيز: 1982 إلى 2005م:عاصرت الملك فهد في خمس مناسبات، كانت أولاها عند قدومه الينا بجامعة البترول في الظهران و هو لا يزال ولياًٌ للعهد و نائب رئيس مجلس الوزراء، في اوائل 1982م؛ و حينها حضر اعضاء هيئة التدريس و من ورائهم عددٌ كبيرٌ من الطلاب، و ذلك في القاعة 10، ‘مبنى السينما’ سابقاً. و بعد القاء مدير الجامعة كلمته الترحيبية.. تمّ فتح باب الأسئلة (المكتوبة) التي تم تجميعها من الجمهور بواسطة عدد من المساعدين لتقدّم فتقرأ للملك عن طريق مدير الجامعة الجالس على يسار المنصة (و كان الأمير سلطان إلى يمين الامير فهد، بينما كان امير المنطقةالشرقية إلى يساره. كان د.بكر يُبنـِّد اوراق الأسئلة ثم يقرأ ما يختاره منها، و في عدد من الأحيان، كان يريها للأمير سلطان. (كان ضمن الأسئلة سؤالٌ كان مطبوعاً بالآلة الكاتبة على بطاقة بحوث بمقاس7×5سم؛ و كان السؤال ضمن الأسئلة التي عرضها د.بكر على الأمير سلطان فأومأ له! كان عن مشروع ‘النظام الأساسي للحكم’. و كان جواب الأمير فهد ان الأمر الآن معروض لدى جلالة الملك (خالد).*ثم كانت مناسبة تقديم مبايعتنا كعمداء بجامعة البترول و المعادن لأمير المنطقة الشرقية، سمو الأمير عبدالمحسن بن جلوي، نبابة عن جلالة الملك فهد. و قد كانت تلك المناسبة بالقصور الملكية الواقعة على يمين الطريق المتجه للدمام من جامعة البترول بالظهران. فلقد مضى وفدٌ مـِنـّا من الجامعة برآسة مديرها، لتقديم البيعة. و كنا قد ركبنا متوزعين في حافلتين صغيرتين (و أذكر اني تلعبكت بمشلحي/ عباءتي اثناء صعودي الحافلة، فكنت لحظتها لم ازل مرتديه و لم اخلعه و أطبَقه لأحمله على ساعديّ!)وصلنا بوابات القصور.. و كان فِناءٌ شاسعٌ بين بوابات اسوارها و ابواب المباني ذاتها. و كان الفناء مكسياً بالرخام اللامع حتى اني ظننت ان عليه بقايا بلل! دخلنا القصر و سرعان ما اصطفَينا في طابور متجه نحو القاعة التي وقف في صدرها سمو الأمير عبدالمحسن بن جلوي، امير المنطقة الشرقية.وكنت في الطابور وراء د.عبدالعزيز بن عبدالرحمان القـُويز، وكيل الجامعة للشؤون الأكاديمية، الذي سلّم و صافح و تحرّك. لكنه سمعني و انا اخاطب الأمير: ‘أبايعك، باسم الملك، على الحكم بالعدل و الانصاف’. و لمحتُ ان الأمير -بُعد جزيئ من الثانية انه اجابني: ‘بارك الله فيك’. كان ذلك في صيف 1982م.*ثم كانت مناسبة للقاء في خريف/شتاء العام التالي، حين قام (الملك) فهد -بعد وفاة الملك خالد- فزار الجامعة و التقى بعدد من العمداء في قاعة المؤتمرات (جوار المبنى 14).ألقى د.بكر، مدير الجامعة، كلمة موجزة نوّهَ فيها بآخر منجزات الجامعة الانشائية، و كان منها مبنى القاعة التي كنا فيه، ‘المبنى 20’؛ ثم اثنى على دور د.ناصر ابراهيم الرِّشيد (اللـَّيلا) في السابق؛ ثم اردف بالثناء على دور د.صالح عبدالله باخريبة، امين عام الجامعة، الذي كان يشرفُ على عموم إنشاءات الجامعة.بعدها، غادر الملك قاعة المبنى في طريقه الى خارج الجامعة؛ لكني قمتُ فاعترضتُ سير خروجه في ممر القاعة، وكنت احضرت معي لجلالته نسخة من كلِِ من كتابي: (افكار تربوية) في طبعته الأولى من نشر مؤسسة تهامة للنشر بجدة، ايام إدارة أ.محمد سعيد طيِّب؛ و نسخة من كتابي (المفاهيم الأساسية في علم الادارة) في طبعته الأولى من نشر شركة جان وايلي و أولاده (في لندن و في نيويورك).كان في تقديمي ذلك عنصر من المفاجأة، فلقد كنتُ قد حملت الكتابين في يديّ.. لكن اثناء ارتدائي مشلحي/عباءتي. و في لحظة التقديم، توجّهتُ بالكتابين اولاً نحو الدكتور بكر ليكون تقديمهما للملك عن طريقه الى جلالته؛ لكنه اشار اليّ قائلاً: ‘قدِّمها لجلالته بنفسك’. ففعلتُ.واثناء تقديمي الكتابين للملك تماديت قليلاً بأني نوّهتُ لجلالته بالفصل17 (أهمية التخطيط)؛ و ابتسم جلالته و’ شكرني مُصافحاً، قائلا: ‘شكراً يا دُكتـُر’؛ و كان نـُطق ‘دُكتـُر’على النمط المصري، بدلاً من ‘دكتور’ ..هو السائد في تلك الأيام.بعدها، عبٌر لي أخ زميل (كان عمله الرسمي: ‘مدير املاك الجامعة’) عن اعجابه بحركتي. و لعل تعبيره جمع بين الإعجاب و (الملاحظة)! و ذلك عن: تقديمي الكتابين مباشرة الى الملك، و على حِين غـِرة! (و قد كانت بعض المهام الأمنية ضمن عمل ذلك الزميل في الجامعة!)*ثم كانت مناسبة أخرى للقاء جلالته و انا مقيم بالبحرين، اثناء زيارته دولة البحرين، لافتتاح جسر المحبة و جسر السعودية-البحرين، في يوم الأربعاء، 1986-11-26م.*اقيمت احتفالية الافتتاح على جزيرة ام النعسان، و هي متوسطةً بين البلدين؛ و التي -لسعة مساحتها- خدمت كموقع دائم لنقاط الجمارك و لختم جوازات السفر، ذهاباً و إياباً بين البلدين.وصل الملك، و بدأت مراسم الحفل شملت قصيدة القاها الدكتور غازي عبدالرحمان القصيبي، صارت رمزاً بارزاً بذلك الحفل (و فيما بعده)، كان مطلعها:-ضَربٌ من العِشقِ، لا دَربٌ من الحـَجـَرِهذا الذي طارَ بالواحات للجُزُر*ولقد كان قصدُ الشاعر: ان جسرُ المحبة هذا يربط بين (واحات) القطيف و الأحساء في جهة ساحل الذهب الأسود بالجانب السعودي؛ و جزيرة المنامة و بقية (جـُزر) الأرخبيل في الجهة المقابلة في دولة البحرين المكونة من 33 جزيرة.بعد إلقاء قصيدة السفير السعودي، د.غازي القصيبي، نّهضّ سمو الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد الخليفة، فألقى كلمة ترحيبية موجزة، كانت ذروتها أن سموّه أعلن تسمية الجسر بـ’جسر الملك فهد’؛ و ذلك بعد ان كانت قد انتشرت -اثناء انشائه- تسمية ‘جسر البحرين’؛ و كذلك تسمية: ‘جسر المحبة’.بلغت تكلفة انشاء الجسر مبلغاً تعدّى الألف مليون ريالاً سعودياً، و تحملته بالكامل المملكة العربية السعودية). كما و لقد شمل المشروع اقامة شبكة من الطرق و الكباري و عدد من المرافق بدولة البحرين؛ حتى كانت النهاية الرسمية ‘للجسر’ -بعد تمديده بما شمل إنشاء طريق الشيخ عيسى بعرض البلاد و إنتهاءً بميناء سلمان في اقصى شرق البلاد، عند منطقة الجـُـفَير.)*وشمل برنامج زيارة الملك حفلاً لاستقبال السعوديين المقيمين في دولة البحرين. أقيم الحفلٌ في حوش مقر سـُكنى د.غازي القصيبي، السفير السعودي بالبحرين (و كان قد تم تعيينه قبل سنتين). و كانت سُكنى الدكتور/السفير القصيبي في منطقة قرية المـَقشع/المِقشاع، إحدى قرى البحرين العشرة الواقعة فيما وراء جّد حـَفص.. في منطقة البُدِيِّع في شمال جزيرة المنامة.*ذهبتُ لحفل الاستقبال و معي ولدايَ (كانا يدرسان في بدايات مرحلة الدراسة الثانوية في ‘مدرسة البحرين’/Bahrain School؛ و كانا و الشيخ سلمان بن حمد (و هو حفيد الشيخ عيسى بن سلمان، امير دولة البحرين؛ و هو ولي العهد الحالي-، كانوا زملاء في الصف الدراسي).وكان الملك فهد واقفاً امام طابور القادمين للسلام، و إلى يمينه كان الشيخ عيسى. (و كان عُرف الدبلوماسية هو تعيين احد الوزراء ليكون ‘الوزير المرافق’ لضيف البلاد، لكن الشيخ عيسى، في هذه الحالة، قرََر ان يكون سُموّه نفسُه هو ‘المرافقَ الرسمي’ للملك فهد طيلة فترة زيارته البلاد.)وكان السفير د.غازي القصيبي يقف على عدة بوصات وراء يسار الملك فهد؛ و قام بتعريف كلِِ من القادمين للسلام.وجاءت نوبتي متقدماً ولديَّ، فذكر السفير د.غازي اسمي و أنا اصافح الملك، فحيّاني جلالته. ثم التفتُ للحظة الى خلفي لأشير الى إبنيَ، معرفاًّ و قائلاً: و هؤلاء اولادي فلان و فلان. و عندها قاطعني جلالته، قائلاً: ‘قـُل إخواني.’!مع تأثير تلك المناسبة و التأثر باللقاء مضيتُ لجزء من الثانية دون إنتباهي لوجود سمو الشيخ عيسى، امير الدولة، ناهيك عن السلام عليه؛ و كان واقفاً على مسافة من الملك؛ لكن د.غازي نبـّهني، فقمتُ و الوَلـَدان بالسلام على سموه ايضاً، ثم على بقية الوفد المرافق للملك. (اذكر ان صف السلام كان قد شمل الأمير طلال بن عبدالعزيز و عدداً من الأمراء و الوزراء السعوديين؛ و واصلنا السلام حتى انتهينا الى د. محمود محمد سـَفـَر، رئيس جامعة الخليج العربي و مقرها البحرين، الذي كان واقفاً في آخر الطابور، و مواجهاً كلّ من كان قبله.*امّا المناسبة التالية و اللقاء الأخير مع الملك فهد.. فكان حينما دُعيتُ و انا مقيم في البحرين استاذاً بجامعتها إلى حفل العشاء الذي اقامه سمو الشيخ عيسى بن سلمان، امير دولة البحرين، على شرف الملك فهد، في قصر الرِّفاع.حضرتُ مع بقية المدعوين، و تكوّنَ طابورٌ للسلام على الضيف و المضيف، لكن رُتـِّب لنا المضي في طابور يمر بقاعة كبيرة حيث كان الملك و الشيخ جالسَين على احدى الكنبات في عمق مجلس الاستقبال.. و كان الترتيب ان نمر امامهما بعرض المجلس و نتوجـّه مباشرة الى قاعةمجاورة اعدت كقاعة للعشاء (و ذلك دون مقابلة الزعيمين و لا مصافحتهما.) وكان انطباعي حينها هو أن الملك فهد كان متعباً جـَرّاء نشاطات النهار، و انه كان ايامها يحسُّ بألمِ في ركبتيه.)كانت قاعة الطعامً مزوَّدة بصواني كبيرة من الأرز و خرفان الكوزي/ القوزي الخليجية؛ وكانت مصحوبة بالعديد من اطباق المقبلات اللبنانية. كنتُ جالساً على مقعد في الجناح الأيمن من مصفوفة طاولات الطعام.. و كان بيننا و الجدارالى الخلف منا مسافة بالكاد تكفي لمرور شخصين. و كنا قد ظللنا قابعين لفترة حتى اكتمل حضور بقية المدعوين و استقر جلوسهم (كان مجمل شكل الطاولات على شكل حرف U).وبعد ثوانِ من اكتمال حضور المدعوين، شعرنا بقدوم جلالة الملك فهد بمعية مُضيًفه سمو الشيخ عيسى.. و مرّا مباشرة من خلفنا، بينما انتصبنا جميعاً وقوفاً اثناء مرورهما. و جاء د.محمود سفر، و كان مع من دخلوا صالة الطعام في وقت متأخر، فكان ان جلس امامي في الجانب الداخلي الأيمن من شكل حرف الـ U من الطاولات. (مما اذكره من حفل العشاء ذاك انه كان باذخاً و بعدد كبير من ذبائح الكوزي/القوزي. كما أذكر أن فترة تناول العشاء كانت قصيرة.)*ولعل القارئ قد لاحظ هنا استخدامي باضطراد لعبارة ‘جلالة الملك’.. دون عبارة ‘خادم الحرمين الشريفين’. و لهذا سبب محدد و خاص. لقد حدث أن ترأسَ جلالته إجتماعاً لمجلس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ و كان يجلس الى يمينه ش.عبدالعزيز بن باز، مفتي المملكة و رئيس الجامعة. (و كان الملك: الرئيس الأعلى للجامعة). في ذلك الاجتماع، القى جلالته كلمة.. ثم ختمها (بمفاجأة): عبـّر عن رغبته بأن تتم مخاطبته بعبارة او لقب ‘خادم الحرمين الشريفين’، بدلاً من ‘جلالة الملك’. و في ذلك الاجتماع في اواخر نوفمبر، 1986م؛ وجـّهَ جلالته بأن تقوم الجهات المختصة بالديوان الملكي بالعمل على تفعيل تلك الرغبة في اقرب فرصة.كان وزير الاعلام علي الشاعر، يجلس مباشرة خلف الملك في لحظة إعلان جلالته رغبته في استعمال لقب ‘خادم الحرمين’، بدلاَ من ‘جلالة الملك’. (و لسببِِ ما فإنّي شعرتُ اثناء مشاهدة وقائع تلك المناسبة أنْ كان لمعاليه دوراً في ذلك).*و كان فهمي و انطباعي في تلك اللحظة من الاجتماع في المدينةالمنورة ان قرار جلالته ذلك كان له حصراً؛ و لم نسمع عن قصده وجوب استعمال اللقب كسُنةِِ لكافة الملوك من بعده. لكن عبارة ‘خادم الحرمين’ استمرت فعلاً، و حلََت محل عبارة ‘جلالة الملك’. ثم توالى استخدامها رسمياً في عهد الملك عبدالله؛ و تبعه في ذلك من بّعده الملكُُ سلمان على نفس النهج.الحلقةالتالية (6) عن الملك عبدالله بن عبدالعزيز.د. إبراهيم عباس نــَـتــّـوعميد سابق بجامعة البترول
مشاركة :