عند الخوض في شؤون التعليم والتعلم، عادة تتحدث المجتمعات عن «حق التعليم».. أي أن تكون المؤسسة الحاكمة مسؤولة عن توفير فرص التعليم لجميع أفراد المجتمع.. ونادرًا ما يتطرق النقاش إلى حرية وحق أفراد المجتمع في اختيار ما يتعلمونه! هذا أمر يثير جدالاً واسعًا بين التربويين وواضعي المناهج الدراسية من جانب، وبين أصحاب العمل الباحثين عن مهارات محددة وتخصصات مفيدة بشكل مباشر بعد مراحل التعليم الأساسية.. وهنالك طرف ثالث في هذه المعادلة.. المتعلم نفسه، الذي لا يجد أي درجة من حرية القرار فيما يُفرض عليه من علوم!! بصراحة، كم هي مفيدة مادة الجغرافيا اليوم؟ بل أليس الأنسب هو دراسة تخصصات جيولوجية عملية؟.. بدلاً من حفظ اسماء المدن، التي تتغير اسماؤها بين كل حين.. وكم هي مناسبة دراسة النحو والصرف وحفظ أشعار الأولين.. في حين يتخرج الأبناء وهم لا يفرقون بين التاء (ت) و(ة)، ولا بين الـ(ظ) و(ض)، ولا يعرفون مواقع الهمزة (ء)، ولا متى تُوضع الشدة على الحروف.. وكم يجيد أغلب طلبتنا بعد سنوات من تعلم اللغة الإنجليزية التي يتم تدريسها كمادة نظرية وليس كمهارة مصيرية.. لماذا يجب على كل متعلم أن ينهي عددًا محددًا من الساعات المكتسبة بغض النظر عن فائدتها ومفعولها وجودتها؟ وهل كتب التاريخ المطبوعة في لبنان ومصر مثلاً تناسب أهل دول مجلس التعاون ودول المغرب العربي؟ وهل مناهج التربية الإسلامية ترضي كل التشعبات المذهبية.. هل كل مناهج العلوم والرياضيات مفيدة للتحضير الأساسي لكل المتلقين من صغار المتعلمين؟ نعم، الكل يكرر القول بحق المواطن في التعليم من مبدأ أن تلتزم الدول بتوفير التعليم وفرض إلزامية التعليم ومجانيته، غير أننا لا نناقش كثيرًا محتويات هذه المناهج وجودتها ومدى تناسبها مع ظروف العصر واحتياجاته. فحين تكون المناهج التربوية مثقلة بمواد غير مناسبة ولا يرتجى من ورائها الفائدة والعلم النافع، تكون أضرارها أكثر من منافعها، وإن كانت مجانية.. هنا يتحول المتعلم إلى وعاء فارغ، رغم كونه مشحونًا بالمعلومات غير المجدية.. بل تصبح العملية أشبه بمصطلح «غسل دماغ» بدلاً من تنمية العقول النيرة المنفتحة والقادرة على التفكير الحر والإبداع الخلاق. قد يبدو وضع مناهج تعليمية بعينها أشبه بعملية قسرية لفرض معلومات محددة سلفًا وفرضها على أفكار الطلبة وتوجيههم نحو مخرجات معينة يراها القائمون على المؤسسات التعليمية مناسبة بحسب معتقداتهم هم فقط.. فمثلاً لو سيطرت حركة دينية على تسيير شؤون مؤسسة تعليمية في بلد ما، يلجأون الى اختيار وفرض المناهج التي تتوافق مع أفكارهم وسياساتهم ومعتقداتهم.. ربما بحسن نية في بعض الأحيان، غير أن الواقع يظل في كل أبعاده ضمن عملية غسل للأدمغة بشكل عام.. كذلك يكون الأمر حين تصرف بعض الدول مبالغ طائلة لترجمة كتب وطباعة مناهج وتكليف بعض الأكاديميين تأليف مقررات تعليمية ويبقون عليها حتى تهترئ.. حفاظا على المال العام، رغم أن محتوياتها الأكاديمية ربما لن تعود صالحة بعد حين.. ويكون الضحية في كل هذه الظروف أبناءنا المتعلمين. هناك فرق شاسع بين أن نحظى بحق التعلم وبين أن نتعلم من العلوم ما لا حاجة لنا منها وليست ذات منفعة.. فلا يكفي أن توفر لنا دولنا المدارس والمناهج، بينما نفتقر إلى العقول الحرة والمعلمين المتنورين ذهنيًا ممن يطورون أنفسهم ومناهجهم حسبما تقتضي الظروف وتلبي حاجات سوق العمل من المهارات الإبداعية، بعيدًا عن التقوقع في أطر المناهج العتيقة والتلقين والحفظ «عن ظهر قلب» إرضاءً ورغبة عمياء للالتزام بمتطلبات التخرج المفروضة عليهم.. وهو ما ينقلنا إلى مدى حرية المعلمين أنفسهم في المس بمحتويات مناهجهم.. فقليلون جدًا هم المدرسون الذين تمتعوا بالجرأة ممن نتذكرهم في حياتنا، ممن كانت لهم بصمات واضحة في أساليبهم التعليمية الشيقة، الذين تجرأوا على الخروج بعض الشيء على نصوص المناهج المعتمدة، وفتحوا لنا أبواب التفكير الحر والتفكير الإبداعي.. فقد اكتفينا من مفهوم أن مدرس الفصل هو الآمر الناهي ومركز الفعل في الفصل. يشرح موقع (دراسات): «نتيجة للتطورات الهائلة والمتسارعة التي تتعرض لها المجتمعات العربية أسوة بالمجتمعات الغربية التي سبقتها في مجالات التطور دعت الحاجة إلى التركيز بطرق مختلفة كالمؤتمرات والندوات وورش العمل التدريبية على واحد أو أكثر من الموضوعات المتعلقة بالتفكير والإبداع والابتعاد عن التقليد والتلقين.. ويمكن القول بأن الانتقال من أنموذج التعليم التقليدي إلى أنموذج التعليم الإبداعي، أو «تعليم التفكير» عملية صعبة، ولكنها ممكنة إذا تم تضييق الفجوة بين المفاهيم النظرية والممارسات العملية على مستوى الصف والمدرسة بالدرجة الأولى.. غير أن الأمر يحتاج إلى تطوير منظومة العلاقات الإدارية والفنية والإجرائية بين الأطراف ذات العلاقة بالعملية التعليمية والتربوية، ولا سيما على مستوى المدرسة كوحدة تطوير أساسية.. ويتفق الجميع على أن التعليم من أجل التفكير أو تعلم مهاراته هدف مهم للتربية، وعلى المدارس أن تفعل كل ما تستطيع من أجل توفير فرص التفكير لطلابها.. ويعتبر كثير من المدرسين والتربويين أن مهمة تطوير قدرة الطالب على التفكير هدف تربوي يضعونه في مقدمة أولوياتهم.. إلا أن هذا الهدف غالبًا ما يصطدم بالواقع عند التطبيق، لأن النظام التربوي القائم لا يوفر خبرات كافية في التفكير.. إن مدارسنا نادرًا ما تهيئ للطلبة فرصًا كي يقوموا بمهام تعليمية نابعة من فضولهم أو مبنية على تساؤلات يثيرونها بأنفسهم، ومع أن غالبية العاملين بالحقل التعليمي والتربوي على قناعة كافية بأهمية تنمية مهارات التفكير لدى الطلاب، ويؤكدون أن مهمة المدرسة ليست عملية «حشو عقول» الطلبة بالمعلومات، بقدر ما يتطلب الأمر الحث على التفكير والإبداع.. إلا أنهم يتعايشون مع الممارسات السائدة في مدارسنا، ولم يحاول واحد منهم كسر جدار المألوف أو الخروج عنه». وهكذا نجد أنه ليس في مناهجنا مجال لحرية التفكير ولا الخيار.. فلا الطالب حر فيما يتلقاه، ولا المدرس يتمتع بحرية في ممارسة مهنته بطريقة مناسبة.. المنهج طويل والوقت قصير.. الفصل مكتظ.. لا مجال للتوسع والنقاش المفتوح.. لا مجال لمنح فرص كافية لجميع من بالفصل للتجاوب والتحاور.. فيلجأ المعلم الى طرح أسئلة متدنية لا تستوجب الاسترسال وإمكانية طرح الحلول البديلة.. بل لا يزال الطابع العام السائد في وضع المناهج والكتب الدراسية المقررة في التعليم العام متأثرًا بالافتراض السائد الذي مفاده أن عملية تراكم كم هائل من المعلومات والحقائق ضرورية وكافية لتنمية مهارات التفكير لدى الطلبة.. وهذا ما ينعكس على شحن عقول الطلاب بالمعلومات والقوانين والنظريات عن طريق التلقين الممنهج.. كما ينعكس في بناء الاختبارات المدرسية والعامة والتدريبات المعرفية الصفية والواجبات «البيتية» التي تثقل الذاكرة ولا تنمي مستويات التفكير العليا من تحليل ونقد وتقويم وإبداع.. ويبقى التركيز من قبل المدرسة، وأهداف التعليم، ورسالة العلم على عملية نقل وتوصيل المعلومات بدلاً من التركيز على توليدها أو تطويرها.. ويُلاحظ ذلك في استئثار المعلمين معظم الوقت بالكلام من دون الاهتمام بالأسئلة والمواضيع التي تتطلب إمعان النظر والتفكير والنقد. وهكذا نجد عاما بعد عام عشرات الآلاف من الخريجين من المدارس والجامعات وقد أمضوا سنوات في تكديس معارف غير نافعة وعلوم غير متوافقة مع حاجات سوق العمل التي تتطلب مهارات فنية وعملية.. والكل يطالب بوظيفة.. ومعها تنشأ أعداد من العمالة الباطلة أو البطالة المُقنعّة.. وهذا يعتبر هدرًا للمال العام والجهود وضياع للأعمار وجمود الأفكار.. هذا أمر مرعب، ولهكذا وضعت تراكمات مفزعة تؤثر على أجيال متلاحقة من المفترض فيهم أن يكونوا ذخيرة للمستقبل وأدوات بناء وتطوير ورقي للمجتمع.. ومعها نقضي منذ المهد على مفاهيم حرية التفكير والإبداع والبحث والمناقشة البناءة.. ومعها ننشئ أجيالاً من المواطنين الذين لا يقدرون معاني حرية الرأي وحرية التفكير وحرية القرار!
مشاركة :