قبل بضعة أعوام حصلت على إجازة تفرغ علمي، فبدا لي أن أقضيها في حرم الجامعة الأمريكية التي تخرجت منها. كنت متحمسة كثيرا للفكرة فقد شاقني أن أعيش من جديد التجربة القديمة حين كنت طالبة في تلك الجامعة فأعود إلى المدينة الصغيرة التي قضيت فيها سنوات غالية من العمر، وأسكن أحد بيوت الحي الجامعي الذي تخصصه الجامعة لسكن طلابها، ثم أصحو كل صباح لأمتطي الحافلة المخصصة لنقل الطلاب من مقر سكناهم إلى حرم الجامعة. كنت أتخيل أن كل شيء باق على حاله وأني سأرى الوجوه نفسها وأحس بالمشاعر ذاتها. اصطحبت أولادي وألحقتهم بالمدرسة هناك ورتبت جميع أموري بما يماثل ما كنت عليه أيام (التلمذة)، تهيأت تماما لاستقبال الماضي الذي فارقته أو فارقني قبل ثمانية أعوام أو أكثر. لكن، ويا للخيبة!! حضر الماضي جسدا وغاب روحا، كان المذاق مختلفا، فرغم أني استطعت أن أضبط ظاهر الأشياء فأجعلها شبيهة بما كانت عليه في الماضي، إلا أني فشلت في ضبط المذاق نفسه، فجاء سمجا خاليا من كل نكهة، فلم أستسغه بتاتا !! تعلمت من هذه التجربة أن لا أحرص على استعادة ما مضى في صورته القديمة مهما بلغ من الجمال، فما مضى مضى بمذاقه ونكهته التي صنعها زمنه وما توفر فيه من ظروف، ولن نستطيع، مهما حرصنا أن نستعيد ذلك الطعم العذب الذي سجلته ذاكرتنا، إن حقا أو توهما. الأشياء القديمة لها مذاقها الخاص الذي يحدده عصرها وظرفها، ومن السذاجة توقع إمكان استعادة المذاق القديم نفسه، فمذاق الأشياء يمثل روحها، والروح متى غادرت تكون مغادرتها أبدية، الروح لا تعود مطلقا. من هنا، شعرت بالتفاعل مع ما أشار إليه سمو أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل رئيس اللجنة الإشرافية على سوق عكاظ، في كلمته الموجزة التي خاطب بها ضيوف السوق، من أن هدف (عكاظ) الآن أن يكون للحاضر والمستقبل، لا مجرد استعادة للماضي. إن هذا حقا، ما يحسن أن يكون عليه عكاظ، أن يتخذ من الرمز القديم الأصيل نقطة انطلاق حرة نحو ما يلبي احتياجات العصر. إن جاز لي أن أطرح مقترحا ما، ضمن ما يجري من دفق التجدد المستمر في عروق السوق العتيقة، فإني أقترح أن لا يبقى السوق مقتصرا في نشاطه الفكري على الندوات الثقافية والأدبية التي تخاطب النخبة المثقفة، خاصة أن هذا الدور تقوم به المؤسسات العلمية على مدار العام، وأن يقدم على تجربة إشراك الناشئة في النشاط الثقافي وجذبهم نحو ذلك عن طريق تشجيع المدارس والجامعات على المشاركة في مباريات ثقافية سنوية تعقد فيما بينها سواء في مجالات الخطابة والإلقاء والشعر، أو في مجالات العلوم والتقنية والابتكار والألعاب الرياضية والفنون التشكيلية وغيرها، ويكون تحكيم المباريات مباشرا وجوائزها ميداليات وكؤوس، كما يحدث في مباريات النوادي الرياضية. لعل السوق بذلك يسدي يدا للتعليم، بأن يكون محفزا له يدفعه إلى كسر الحواجز التي تعزله عن الحياة الاجتماعية واستغلال طاقاته لتقديم أفضل ما يمكنه.
مشاركة :