على الرغم من ترجمة الدكتور علي جواد الطاهر لأربعة كتب من اللغة الفرنسية إلى العربية، ومراجعته لعشرات الكتب المُتَرجَمة عن لغات غربية وشرقية إلاّ أن أحداً لم يكتب عن هذا المضمار الحيوي الذي عُني به الراحل، وكرّس له جزءاً مهماً من وقته الثمين إلى أن انبرى تلميذه، وصديقه الحميم، وزميله التدريسي لاحقاً الدكتور حسن البياتي ليكتب عنه بحثاً معمّقاً عنوانه «الدكتور علي جواد الطاهر والترجمة إلى اللغة العربية»، وبما أنّ الكاتب كان يسارياً آنذاك، وأنّ المكتوب عنه غير مَرْضي عنه تماماً من قِبل السلطة الاستبدادية فقد رفض رئيس تحرير مجلة «المجمّع العلمي» نشر هذا البحث الأكاديمي لكن مجلة «آفاق عربية» أبدت استعدادها لنشره شرط اختصاره إلى النصف، بينما وافقت «الموسوعة الصغيرة» على نشره إن قام الباحث بتوسيع مادته بما يتناسب مع حجم الإصدار. وحينما سافر الدكتور حسن البياتي إلى اليمن للتدريس في جامعة حضرموت أخذ معه البحث لكن الحادث الذي أودى ببصره وقف حائلاً دون نشره، فتقادمت الأعوام عليه حتى عاود نشاطه الثقافي من جديد فطوّر البحث عام 2015 ووسّعه حتى أصبح كتاباً قائماً بذاته يحمل عنوان «الصرح الترجمي للدكتور علي جواد الطاهر» الذي صدر عن دار الفارابي في بيروت هذا العام. يتمحور الكتاب على تراجم الطاهر، ومراجعاته للكتب المترجمة، وآرائه النقدية في عملية الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية. ويتضمن الكتاب أيضاً وثيقتين خطيتين مهمتين، وصفحات استهلالية تسبق المقدمة، والأركان الخمسة التي يقوم عليها متن الكتاب، والخاتمة التي تشتمل على نتائج البحث، وتوصيات الباحث بمواصلة الكتابة عن هذا الصرح الترجمي كلما توفرت لديه مادة جديدة لم يقع عليها من قبل. تكشف الوثيقة الأولى عن التواضع الجمّ للدكتور الطاهر الذي أرسل نسخة من كتابه «منهج البحث الأدبي» إلى تلميذه حسن البياتي ملتمساً منه إن اتسع له المجال أو سافر إلى موسكو أن يحصل على كتاب نموذجي في منهج البحث، ويقارن بين الاثنين ليستدرك ما فاته في طبعة لاحقة. أما الوثيقة الثانية فهي كلمة تأبين للفقيد الراحل الذي غادرنا جسداً لكنه ظل حاضراً بيننا بفكره الثاقب، ورؤيته النقدية المتوهجة. إذا أراد القرّاء أن يعرفوا صدق العلاقة الإنسانية الراقية بين التلميذ وأستاذه فعليهم أن يقرأوا الصفحات الاستهلالية التي ترصد هذه العلاقة منذ العام 1954 حين تعرّف عليه في دار المعلمين العالية حتى يوم رحيله المفجع في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1996. وخلال أربعة عقود ونيّف من هذه العلاقة الحميمة مع أستاذه، وصديقه المقرّب وجد البياتي نفسه مهيأً لكتابة هذا البحث لأسباب كثيرة أهمها قراءة كل ما كتبه الطاهر من أعمال منشورة، ومخطوطة باستثناء بعض المقالات والمراجعات النقدية التي تعذّر الحصول عليها بسبب التنقل والترحال بين المدن والأمصار بحثاً عن الطمأنينة والسلام الروحي. كما أن البياتي نفسه شاعر، وباحث، ومترجم وقد صدر له في حقل الترجمة فقط 15 كتاباً مترجماً عن اللغة الروسية تؤهله لأن يخوض في هذا البحث الأكاديمي غير المطروق من وجهة نظره. يقوم الصرح الترجمي على خمسة أركان رئيسية وهي «مباشرة الترجمة، والحثّ عليها، ومتابعة النتاج المترجم وتقويمه، ومراجعته، وطرح وجهات نظر عامة في عميلة الترجمة». يحيطنا الركن الأول من الكتاب، أي مباشرة الترجمة، بأن الطاهر قد ترجم أربعة كتب رئيسية إذا ما استثنينا أطروحته الموسومة «الشعر العربي في العراق وبلاد العجم في العصر السلجوقي» التي ترجمها عام 1956. أما الكتب الأربعة فهي «مقالات» 1956 و«الأبناء وقصص أخرى» التي صدرت عن اتحاد الأدباء العراقيين عام 1961. أما الكتابان المخطوطان فهما «السوط وقصص أخرى» لسبعة كُتاب فرنسيين و«الأدب الفرنسي في العصر الوسيط» لبيير جورج كاستكن، وبول سيرر الذي لم يرد ذكره لا كتابة ولا شفاهة، كما أنه الكتاب الوحيد الذي ظل دون مقدمة بخلاف كتبه المخطوطة كلها. يعتقد البياتي أن قارئ هذه المقالات والقصص يشعر بالمتعة «لسلامة لغتها، وسلاسة أسلوبها» وكأن رائحة الترجمة قد تلاشت من هذه النصوص أو كادت، وهذا يؤكد أن الطاهر كان متمكناً من أدواته الترجمية، وقد أشاد الباحث بأسلوبه الشاعري الجميل الذي يحاول الاقتراب من الأصل والتماهي فيه. أما الركن الثاني فهو «الحثّ على الترجمة إلى اللغة العربية والإشادة بجهود القائمين بها» حيث اتّبع الطاهر كل الوسائل المتاحة له مثل الكتابة في الصحف، ومراسلة المترجمين الذين يتوسم فيهم القدرة على الترجمة، واللقاءات الشخصية، أو الاتصالات الهاتفية مستفزاً هممهم، ومستنهضاً قدراتهم الثقافية الكامنة بغية ترجمة النصوص الأدبية التي تساهم في تطور البلد، ومواكبة ركب الأمم المتحصرة. وقد أشاد الطاهر بعدد من المترجمين العراقيين أمثال جميل نصيّف التكريتي، وحياة شرارة، وجليل كمال الدين، وضياء نافع، وحسن البياتي الذي تألق في ترجمة روايتي «أولئك الذين تحت» و«زبد الحديد» وسواهما من الكتب الرصينة الأخرى. يرتكز الركن الثالث على «متابعة النتاج المُترجَم وتقويمه» ففي الأقاصيص المترجمة أسهم الطاهر بترجمة أقصوصتين من اللغة الفرنسية، بينما شارك آخرون بترجمة ثلاث قصص من الألمانية والإنجليزية والفارسية مع مقدمة طويلة كتبها الطاهر بنفسه حيث قدّم في الصفحات العشر الأخيرة منها عرضاً تقويمياً للأقاصيص الخمس متابعاً إياها بطريقة علمية، ومثمِّناً جهود القائمين بها من دون أن ينسى الإشادة بالمؤسسات والجهات الناشرة. يعود اهتمام الطاهر بالأدب المترجم إلى عام 1934 حينما قرأ «خواطر حمار» للكونتيس دي سكير، ترجمة حسن الجمل، ورواية «هيرمن ودروتيه» لغوته ترجمة محمد عوض محمد وسواها من الكتب الأدبية ثم يتواصل الثناء ليشمل مترجمين من طراز سليمان البستاني الذي ترجم الإلياذة، وسامي الدروبي الذي عدّه الطاهر «حالة نادرة في تاريخ الترجمة عندنا»، ومحيي الدين صبحي، ويوسف إبراهيم جبرا، وعزيز ضياء، ومترجمي مسرحيات «كريولان» و«الإنسان الطيّب» و«غاليليو» التي أخرجها الراحل عوني كرّومي، فقد كان الطاهر مولعاً بمتابعة المسرحيات المترجمة التي تُعرض آنذاك منوّهاً بجيدها، ومُنتقداً الهابط منها. يختص الركن الرابع بـ«مراجعة النتاج الأدبي المُتَرجم إلى اللغة العربية» حيث كُلِّف الطاهر بمراجعة كتابين وهما «تشيخوف» لهنري ترويا، ترجمة خليل الخوري، و«قصيدة النثر: من بودلير إلى أيامنا» لسوزان برنار، ترجمة زهير مغامس، وقد أعجب المترجمان بمراجعة الطاهر، وملحوظاته القيّمة، وتصويبه للهفوات التي ارتكبوها في أثناء الترجمة. أما القسم الثاني من هذا الركن فيشتمل على مراجعة 27 كتاباً مترجماً من الفرنسية والإنجليزية والروسية حيث انتقد المراجعين الذين لا يستدركون الأخطاء قبل وصولها إلى القرّاء. أما الركن الخامس والأخير فيتمثّل بـ«طرح وجهات نظر عامة في عملية الترجمة» وهي آراء وأفكار مُستمدة من تجربته الشخصية الطويلة، وخبرته الواسعة التي تجمع بين البحث والنقد والترجمة. ويشدّد الطاهر على أن المترجم ينبغي أن يمتلك ناصية اللغتين، المترجَم منها والمُترجَم إليها، ويدعو إلى ضبط الترجمة وصياغة العبارة السليمة التي لا تخدش الأذن العربية المرهفة. خلاصة القول إن الدكتور حسن البياتي قد وفا بوعده، وبرّأ ذمته من الدَين الذي طوّق عنقه على مدى عشرين عاماً أو يزيد.
مشاركة :