كتاب جميل في أدب المراسلات، نشرت فيه د. لقاء الساعدى ما وجدته محفوظا من رسائل في علبة صدفية تخص السيدة فائقة زوجة الدكتور الطاهر. المحررة هي زوجة الابن الأصغر للدكتور علي جواد الطاهر.. الدكتور على كاتب في تاريخ الأدب وناقد ومفكر من العراق، اشتهر في السعودية بكتابه المهم (معجم المطبوعات العربية: المملكة العربية السعودية)، وهو من أهم ما كتب في توثيق وعرض الإنتاج الفكري في السعودية، وقد عثرت على مقالين ضافيين عن هذا المرجع في كتاب د. يحيى ساعاتي «من يقرأ المصباح»، الصادر عن كتاب الرياض عام 1994. كما عرض الأستاذ محمد القشعمي على صفحات اليمامة كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو أحد الكتب المهمة للدكتور الطاهر . حظي الكتاب بمقدمة غنية عن أدب المراسلات ، ذكرت فيه المحررة أن التطور التكنولوجى غيب بعض الفنون الأدبية ، فالتراسل عبر التطبيقات الذكية حل محل الرسائل الورقية، وهذا صحيح لأنه يجعل متابعة الرسائل ذات المضمون الأدبي صعبة ، ولكننى أختلف هنا مع الكاتبة فإن تسهيل امر التراسل وسهولة حفظها ربما يؤدى إلى تطور هذا الفن وليس العكس . وتتابع الكاتبة أن أدب الرسائل الشخصية هو الأكثر التصاقا بالروح وتعبيرا عن الذات في حقيقتها العارية دون تهذيب أوتفكير، ولعلي هنا استدل على صحة ذلك بأن الكتاب الذي فاز بجائزة معرض الكتاب في القاهرة في دورته الخمسين عام 2019م هو كتاب خطابات المخرج محمد خان الى صديقه المصور السينمائي سعيد الشيمى، وقد ظهر الكتاب في ثلاثة أجزاء وحاز شعبية كبيرة. تناقش المقدمة أيضا السؤال الأخلاقي حول نشر رسائل الأدباء بعد مغادرتهم الحياة ، لطابعها الشخصي، وترى الكاتبة أن الرأي الحاسم في تقديمها للجمهور من عدمه إنما يعتمد على محتواها، فالرسائل ذات المضمون العاطفي والفكري المرتبطة بالمرحلة السياسية والإجتماعية التى كتبت فيها أولى بالنشر، طالما أنها لا تتضمن ما يمكن أن يمس الأديب أويسيئ إليه. بل إنها توثق عصرها. وهنا تري المقدمة أن في هذه الرسائل محاولة لتجاوز الصورة المتخيلة في أذهان الناس عن الأدباء والسياسيين والشخصيات العامة، في قالب الشخص المتجهم الجاد، ومحاولة لكشط الأوهام التي تري في الجانب العاطفي للإنسان ما يجب أن يختفي. يندر أن تجد رسائل منشورة في الأدب العربي من أديب إلى زوجته ، وما نشر منها كان بسبب افتراق مهم حدث مثل أن يُسجن الزوج. وتري محررة هذه الرسائل أن الثقافة العراقية تحديدا لا تعترف بهذا النوع من الأدب، وتعلل لذلك بأن الإنسان العراقي يولد بخصلة الخوف من التعبير عن مشاعره ، والرجل العراقي يدأب على حجب حياته الشخصية عن حياته العامة معتقدا أن إظهار الرقة وفورة العاطفة مما ينقص من قيمة الرجل. ويظهر ضعفه. تكشف هذه الرسائل -كما تقول المحررة- جانبا انسانيا نادرا في سلوك المثقف أوالإنسان العراقي يتسم بالنزاهة والتطابق بين الرجل الأكاديمى العالم ، والزوج المخلص لأسرته وشريكة حياته، وتتابع بأن هذا أمر نادر في الرجال، فالكثير منهم لا يرون الإخلاص لنسائهم أمرا محمودا، ويفصلون بين السلوك المهني والسلوك الأسري، والسلوك السياسي، وهذا في رأيي اتهام خطير وأرجو ألا يكون صحيحا. كذلك ترى محررة الكتاب أن فى هذه الرسائل صورة للطبقة الوسطى العراقية في نموها وتطورها ، وتأثير القمع السياسى عليها، وتبعثرها بين الهجرة والنفي والسجون ، وهنا نلحظ أن أبناء الطاهر الثلاثة لم يبق أحد منهم في العراق رغم أن والدتهم طورت بيتها وصممته ليستوعب ابنيها وأسرتيهما.، ونلحظ ما حوته رسائله إضافة للوعة والاشتياق من تفاصيل عن خروجه خوفا من إلقاء القبض عليه بعد ثورة 1963 البعثية حيث أودع بعض زملائه السجون ففر قبل أن يصله الدور، واصدر الانقلابيون مرسوما يقضي بالتقاعد الإجباري عليه وعلي كثيرين ممن لم يكونوا ينتمون لحزب البعث، ونلاحظ حرصه على أن يحصل على موافقة للعمل في السعودية حتى لا تتم معاقبته بإلغاء التقاعد ، كما نلاحظ أنه سعى للحصول على عقود عمل لزملاء عانوا ما عاناه ، ونري رسالة للشاعر بلند الحيدري مرفقة بقصيدة جميلة، يطلب بلند من الطاهر البحث عن عمل له في السعودية. قسمت الرسائل الى مجموعات علي السنوات والسفرات ، فمنها سفرته مع اتحاد الأدباء العراقيين إلى الاتحاد السوفييتي ، وذكر فيها تفاصيل عن رحلاته ،كما ذكر أن الأدباء العراقيين التقوا مجموعة من الأدباء السوفييت في ليننجراد وقال انهم لم يكونوا أقل مستوى من السوفييت علما وفكرا ورصانة، ويذكر ملاحظات عن فينا وجنيف وباريس وغيرها من المدن التي زارها في رحلات علمية، ويتوسع في تفصيل الحديث عن رحلته الى تشيكوسلوفاكيا للعلاج، ويسمى عناوين محاضراته في رحلته العلمية الى المغرب والجزائر ، ويبدو أن أحواله المادية لم تكن دوما متيسرة، فهو يتحدث عن الاسعار والهدايا التى سيأتى بها والهدايا التى صرف نظره عنها لارتفاع سعرها، وفي الرحلة التى خرج فيها هاربا من ملاحقة البعث يفصل مراحل سفره منذ خرج من بغداد مرورا بسوريا واستقراره الطويل في لبنان بين بكفيا وضهر الشويرة وبيروت ،ويطلب كتبا أحيانا ويدل زوجته على موقع الكتاب من مكتبته ولعل هذا سبب أن زوجته قد درست علم المكتبات ، وحين رتب أمر العمل في الرياض ذكر لزوجته أن الرياض قسمان، قديم ويسمى السوق لا سفور فيه ، ولا بد فيه من ارتداء العباءة وما إليها وفيه مركز المدينة، وفيها قسم نسي اسمه ولعله الملزة (يقصد الملز) ،يقول أنه جديد وفيه الدوائر والجامعة ويمكن أن يكون فيه السفور المحتشم. لفت نظري كثرة رسائله، إذ يندر أن يمضى يوم دون أن يكتب لزوجته فيه ويرسل لها عنوان محطته التالية لترسل ردها عليه . أما الأكثر جاذبية فيها فهو مقدار ما يبثه زوجته من الاشتياق واللوعة، وخاصة في رسائله الأولى، وان لاحظنا ان حجم العواطف يتناقص مع التقدم في العمر، فبينما تحتل العواطف ثلثى مساحة رسائل عام 1958 تتناقص حتى نصل في رسائل 1970 الى كلمة واحدة، الرسائل الأولى تبدأ هكذا : عزيزتى وأكثر من عزيزتى، عزيزتى والف عزيزتي، عزيزتي عزيزتي عزيزتي، ثم ننتهى إلى عزيزتى فقط ، ثم زوجتى العزيزة، ثم يقتصر الأمر على تحية ولا يذكر عزيزتى، وهذا حال الدنيا. كم اللهفة التي يتحدث عنها كبير ، لدرجة أنه يبدأ رسالة طويلة بعبارة كم بقى الى ايلول وينهيها بنفس العبارة ، أي أنهما سيلتقيان في ايلول بينما لم يبق على ايلول أكثر من أسبوع، وقد يظن القارئ أنهما قد تزوجا بعد قصة حب طويلة ولكنـــه يكتشف غيــر ذلك ( أجل زوجتى وأحبها، وهي، جديرة أي جدارة بذلك، وهل شرط الحب عواطف المراهقين، وهل شرطٌ أن تحبها قبل أن تتزوجها، فإنى لم أعرف زوجتى إلا مرة واحدة قبل الخطبة، ولكنها كالمسك تضوع رائحته كلما فركته، إنها الزوجة التى لا يمكن أن تصلح لى سواها، ولا أدري كيف يكون مصيرى لو لم أوفق إلى فائقة) ،ثم يقول أنه اكتشف عبقريتها مبكرا ويبدوانه يقصد حسن تخطيطها للاسرة ورعاية الزوج والأبناء. وفي موقع آخر يخاطب طفله رائد يتمنى ان يكون مستقبل أمره على غير طبيعة أمر والديه، اذ أن اباه يريد أن يقول لزوجته اشياء كثيرة ،إنك سعادتى، إنى احبك، اني احبك، فتخف تصعد السلم ليضمها جوف السيارة لأنها لا تريد أن يتفرج الناس على زوجين يبكيان، إن المسافرين عراقيين ولا يفهمون معنى البكاء في هذا الموقف (يا ناس، يا عراقيون، إني أحب زوجتى، أحب فائقة، والأسباب كثيرة أحسها ولا أتبينها) ومثل هذا كثير تتحرك له الأشجان. أما المصطلح الذي اخترعه (السغب العاطفي)، فيقول (وأنا وأنت ننشد السلوي والصبر، وتخفيف ألم الفراق، وتقليل عوامل السغب- ولا أدري لم حضرتني كلمة السغب بالذات- إنها لغويا وبلاغيا في غير مكانها، ولكنها فرضت نفسها، ولعلها أفصح ما في اللغة وأبلغ من البلاغة، أي نعم، السغب العاطفي، السغب إلى القرين الصالح) ولا أدري كيف كان الرجل يتدفق عاطفة رغم أن الأيام التى ابتعد فيها عن زوجته لم تكن إلا أياما معدودة، ماذا كان سيحدث لو أنه سجن مثل أدباء غيره في سجون البعث ، هل كان ألم السجن وتعذيبه سيشغله عن أشواقه، ولو ابتعد عنها ابتعاد إبن زريق عن زوجته يوم ارتحل عن بغداد إلى الاندلس، ولم يعد يؤمل أن يعود فيراها ، هل كنا نظفر منه بقصيدة تنافس «لا تعذليه فإن العذل يوجعه… قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه» كنت أتمنى لو أتيح لنا ان نقرأ ردود زوجة الطاهر، لماذا اختفت؟ هل خشي الطاهر أن يطلع عليها أولاده، أو يقرأها أحد من بعده فيتمنى زوجة مثل فيق ، ويحترق هو بغيرة المحبين.
مشاركة :