ليس الحديث عن العدو مبهجاً، فمع اعترافنا بوجود الأعداء وكثرتهم، فإننا غالباً نفضل الحديث عن الصداقة والأصدقاء، لما تشيعه الكلمة من شعور بالراحة في مقابل الشعور بالنفور الذي ينبعث من الكلمة الأخرى، كلمة "عدو". ومن اللافت أن العدو هو دائماً شخص آخر، شخص غيرنا نحن المتحدثين. نحن لسنا أعداء لأحد، وإنما هناك أعداء لنا، بمعنى أن العدو دائماً شخص "آخر"، شخص غيرنا. نتحدث عن أن لنا أعداء، ولكننا لا نصف أنفسنا بالأعداء إلا مع تبرير يقول إننا اضطررنا لنكون أعداء لآخرين، فنحن في جوهرنا أصدقاء اضطرهم سوء الآخر أن يكونوا أعداءً له. فلن يعترف أحد بأنه عدو أو معتدٍ، بل هو إنسان طيب جعلته عدوانية الآخرين عدواً. لكن تنائينا عن وصف أنفسنا بالعدوانية لا ينفي حاجتنا إلى الأعداء. ذلك ما يتوصل إليه الكاتب الإيطالي المعروف أمبرتو إيكو في مقالة بعنوان "اختراع العدو" ضمن كتاب صدر بهذا العنوان. "وجود العدو مهم ليس لتحديد هويتنا فحسب وإنما أيضاً ليوفر لنا عائقاً نقيس إزاءه قيمنا، ونثبت، أثناء محاولتنا تخطيه، قيمتنا". فمن الصعب تصور أحد بلا أعداء، سواء أكان فرداً أم شعباً أم ثقافة. الكل يحتاج إلى عدو، وفي هذا السياق يذكر إيكو قصة طريفة يبتدئ بها مقالته. ففي نيويورك يقول إنه كان في تاكسي يقوده باكستاني وسأله السائق عن بلده فأخبره أنه إيطاليا فسأله: من هم أعداؤكم؟ بهت إيكو طبعاً من السؤال، لكن مخيلته انطلقت في كل الاتجاهات تتأمل أبعاد السؤال العجيب: من هم أعداؤكم؟ فالباكستاني لا يتخيل شعباً بلا أعداء. تذكّر إيكو أن أيطاليا لم تخل من الأعداء في تاريخها. تذكر موسوليني وحروبه وأعداءه، وعاد إلى أبعد من ذلك ضمن التاريخ الأوروبي. استحضر التاريخ بمعرفته الواسعة بتاريخ العصور الوسطى بشكل خاص، التاريخ الذي استمد منه بعض رواياته الشهيرة، فذهب في تأمل مثير يستحضر الأمثلة ويضعها في سياق نظري وإن طغى عليه السرد التاريخي والاقتباسات الطويلة. يذكر لنا كيف اكتظ تاريخ أوروبا بالأعداء، وأي نوع من الأعداء كانوا، لكن الأهم في ما يتحدث عنه هو استنتاجاته التي سيبدو بعضها غريباً لأول وهلة، ولكنها غرابة ستزول حين نتأمل الاستنتاج ونستحضر الظروف التاريخية التي يبدو أنها أملت ذلك الاستنتاج، فقد ألقى إيكو محاضرته حول الأعداء عام 2008 والأجواء محتقنة بمشاكل العراق وأفغانستان ولاشك أن ذلك ترك أثره على اختيار الموضوع وما ورد في المحاضرة من تفاصيل لن يتسع العرض هنا لذكرها. يستحضر إيكو مفهوم العداوة في روما القديمة، ويقول إن البرابرة الذين عدتهم روما أعداءها كانوا كذلك لأنه ظهر من يصورهم على أنهم يختلفون عن الرومان في أساليب حياتهم وممارساتهم. ويشير هنا إلى الكاتب الروماني شيشرون (أو سيسيرو) الذي جاء كلامه متفقاً مع القديس أوغسطين في تصوير الأعداء، فهم وثنيون ويمارسون طقوساً تتسم بالعربدة. وقد تصور الرومان البرابرة على ذلك الأساس فعلاً، فهم يختلفون شكلاً بلحاهم الطويلة وأنوفهم المعقوفة. وينتقل إيكو من ذلك إلى العصر الحالي ليرى أن الوضع المعاصر لا يختلف كثيراً. فالأعداء الحاليون، ويقصد بذلك أعداء الغرب، "ليسوا من يهددوننا مباشرة (كما كان يمكن للبرابرة أن يفعلوا) وإنما هم من يهم البعض أن يصورهم على أنهم يشكلون تهديداً حقيقياً وإن لم يكونوا كذلك. فبدلاً من تهديد حقيقي يبرز الطرق التي يختلف فيها أولئك الأعداء عنا يصير الاختلاف نفسه رمزاً لما نراه مصدراً للتهديد". الخوف يكمن في الأجنبي المختلف، فهو مصدر التهديد. يستعرض إيكو عدة أمثلة في التاريخ الأوروبي والغربي عموماً، يتفق في أحدها مع جلعاد النجار في الدراسة التي عرضت لها في المقالة السابقة، أي العدو اليهودي. ويعود هنا إلى المؤرخ الروماني تاسيتوس (القرنان الثاني والأول قبل الميلاد) الذي قال عن اليهود "كل الأشياء المقدسة عندنا مدنسة عندهم وما هو ملوث عندنا مشروع عندهم". لكن الزنوج لم يقلوا سوءاً بالنسبة لمسيحيي الغرب. ففي أول موسوعة أمريكية نشرت عام 1789 نقرأ أن في "ملامح الزنوج الذين نقابلهم ظلالاً متنوعة، ولكنهم يختلفون عن بقية الناس في كل سمات وجوههم"، ثم يستعرض تفاصيل جسمانية مختلفة سواء للنساء أو الرجال ليخلص إلى الجوانب العاطفية والشعورية أنهم "غرباء في كل إحساس من العاطفة، وهم مثال مروع لفساد الإنسان عندما يترك لنفسه". وتتوالى الأمثلة من نظرة الأوروبيين للبيزنطيين في العصور الوسطى من حيث هم على درجة عالية من القبح لم توفر حتى ملوكهم، إلى نظرة الفرنسيين للألمان في أوائل القرن العشرين. ففي كتاب لعالم النفس الفرنسي إدغار بيريون في كتاب حول "الجنس الألماني" وصف فيه الألمان بأن رائحتهم شديدة النتانة (ومن الطريف هنا أن عنوان الكتاب الألماني كما أورده إيكو ليس صحيحاً، فقد ذكر كلمة polychésie ضمن العنوان (polychésie de la race allemande) التي لا وجود لها في الفرنسية أو غيرها، واكتشف مترجمون، غير مترجم كتاب إيكو إلى الإنجليزية، أن الكلمة هي polychrésie التي تشير إلى معنى يتصل بدورات المياه لا يحسن ذكره هنا، ويبدو أن إيكو نقل العنوان خطأ عن قائمة ببليوغرافية). بيد أن الشخصية الأكثر إثارة للتقزز وبالتالي الأجدر بدور العدو في التاريخ الأوروبي المسيحي بشكل خاص تظل هي شخصية اليهودي. فقد وصف اليهودي بأنه متوحش ومقزز الرائحة منذ مجيء المسيحية، لأنه ربط بالمسيح الدجال the Antichrist. ففي رسالة يقتبسها إيكو من القرن العاشر حول أصل المسيح الدجال وزمانه نقرأ: "سيولد المسيح الدجال من الشعب اليهودي ... من اتحاد أب وأم، مثل بقية الناس، وليس كما يقول البعض من عذراء ... وفي بداية الحمل سيدخل الشيطان إلى رحم الأم ..." الخ. وتستمر صورة اليهودي، الذي يتماهى في المخيال الأوروبي مع المسيح الدجال، حتى القرن الثامن عشر، عصر التنوير، فهاهو الفرنسي بابتيست هنري غريغوار في مقالة حول شكل اليهود وأخلاقهم وحيلهم: "لهم بشكل عام وجوه عليها مسحة من الزرقة، وأنوف معقوفة، عيون غائرة، وأذقان بارزة وعضلة مشدودة بقوة حول الشفة السفلى ... واليهود معرضون للمرض مما يشير إلى فساد دمهم ..." ويستمر الأمر حتى منتصف القرن التاسع عشر، كما في مقالة للموسيقار الألماني الشهير فاغنر حول "اليهودية في الموسيقى". يقول: "ثمة شيء أجنبي في الشكل الخارجي لليهودي يجعل هذه الجنسية مقززة بشكل فضيع؛ ونشعر بالفطرة بأننا لا نريد أن تكون لنا علاقة بإنسان شكله كذلك". إلى أن يصل إلى الموسيقى والغناء فيقول: "قد نرى استعداد اليهودي في كل فن ماعدا فن الغناء الذي حرمته الطبيعة نفسها منه". لكن هذه الصفات السيئة الكثيرة، والمخترعة طبعاً، للعدو تتكرر في نماذج أخرى مثل نموذج الساحرة الذي لعب دوراً بارزاً في المخيلة الشعبية الأوربية ولزمن طويل. من هذا كله يتضح الدور المركزي الذي يلعبه "العدو" في الثقافة – أي ثقافة بالتأكيد وليس الأوروبية وحدها. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه من وجهة نظر أمبرتو إيكو هو: هل حسّنا الأخلاقي عاجز عن التوقف عن توليد الأعداء أو اختراعهم استجابة لحاجة دفينة؟ وإجابة الكاتب الإيطالي مهمة. يقول: إن المشكلة الأخلاقية ليست في تظاهرنا بعدم وجود أعداء، إن نحن فعلنا، وإنما في عدم محاولتنا فهم أولئك الأعداء، في عدم وضعنا أنفسنا في مكانهم. هنا يضع إيكو يده على معضلة أخلاقية حقيقية تؤثر في المفاهيم والصور النمطية وبالتالي تشكل الثقافات والمواقف السياسية ومن ثم أسباب الحروب. ليس أصعب على الكثيرين من تفهم العدو. التفهم يعني تقبل وجهة نظر معارضة تماماً، وجهة نظر "عدوة" تبدو حتى الدعوة إليها مثيرة للشكوك والتهم ومن ثم العداء. ويخلص الكاتب في النهاية إلى تسجيل موقف أخلاقي حي في خلق الأعداء. لم يعد العدو بالنسبة للغرب هو اليهودي أو الساحر أو الزنجي أو غير ذلك من الأعداء التقليديين، وإنما هو العدو الجديد المتمثل بالمهاجرين الأجانب الذي يقيمون بين ظهراني الأوروبيين. إيطاليا إحدى الدول الأوروبية التي تعيش مشاعر العداء وتراها تشتعل من جديد تجاه أولئك المهاجرين: "في إيطاليا اليوم يصور الرومانيون على أنهم الأعداء وذلك بصبغ ثقافة إثنية بأكملها بصفات أفراد قلائل من أعضائها المهمشين، الأمر الذي يوفر كبش فداء مناسب لمجتمع لا يستطيع، وقد وقع في شباك التغيير – ومنه التغيير الإثني – أن يتعرف على نفسه". والآن وقد عرفنا وجهة نظر إيكو ومشكلة الإيطاليين والأوروبيين أو الغربيين في اختراع الأعداء، في صنعهم حتى حين لا يكونون موجودين، ما الذي يمكن للثقافات الأخرى، ومنها الثقافة العربية الإسلامية أن تقوله عن أعدائها؟ من هم أولئك الأعداء؟ وكيف يصنعون؟ وما نقاط التقاطع مع غيرهم من الأعداء؟ تلك أسئلة تحتاج إلى وقفات أخرى أطول وبالتأكيد أصعب.
مشاركة :