اعترافات أمبرتو إيكو

  • 2/15/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

شوقي بزيع لم تكن فنون السرد لتنال الخطوة البالغة التي نالتها في العقود المنصرمة لو لم تكن الأقدر من بين سائر الفنون على الإحاطة بتفاصيل المكابدة الإنسانية وتتبع وقائع الحياة وأحداثها، بما لا تسمح به طبيعة الشعر أو الرسم أو الموسيقى التي تميل إلى الاختزال والتجريد والتكثيف المفرط. فالرواية على سبيل المثال لا تتيح للقارئ الاستمتاع بالسفر إلى حياة افتراضية وموازية فحسب، بل توفر له أيضاً متعة التلصص على حيوات الآخرين والتفرج عن بعد على مصائرهم المتغايرة حزناً وفرحاً، انزلاقاً نحو المأساة أو خروجاً منها. على أن كتَّاب الرواية قد يشعرون بالغيرة في بعض الأحيان إزاء أبطالهم الذين يتحولون إلى نماذج إنسانية قابلة للاقتداء والتقليد والمماهاة أكثر من المؤلفين أنفسهم، كما هو الحال مع كازانوفا ودون جوان ودون كيشوت وزوربا وأحمد عبد الجواد وغيرهم. لذلك فهم يعمدون إلى كتابة سيرهم الشخصية التي يستردون بواسطتها ذواتهم المغيبة في الروايات، أو المتناثرة بين شخوصها، كما لو أنهم بذلك يضربون بقبضاتهم على الطاولات ويقولون: نحن هنا، وليس على أحد أن يغفل حقيقة كوننا الأصل والفصل في العالم الذي خلقناه وأغرينا به الآخرين. وقد تكون هذه السير المكتوبة بشكل مباشر كما في سيرة كازاتزاكي تقرير إلى غريكو أو سيرة ماركيز عشت لأروي، أو تكون على شكل حوارات مطولة مع نقاد وأصدقاء مقربين، كما في حوار نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، على سبيل المثال لا الحصر. لا يقع ما فعله الروائي الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو في كتابه اعترافات روائي شاب تحت باب المذكرات أو السيرة الذاتية، ولكنه لا يقع خارجها تماماً. وقد يكون ما فعله صاحب اسم الوردة هو محاولة صعبة وذكية لتجنب الحديث عن كل ما يتصل بحياته الشخصية والعاطفية أو بمواقفه السياسية والإيديولوجية، إلاّ بمقدار ما يصب الحدث في مجرى العمل الروائي أو يخدم مناخات السرد وتقنياته. وقد يخيل للقارئ للوهلة الأولى بأن الكتاب يخص شخصاً آخر غير المؤلف الذي غادر سن الشباب منذ عقود، ولكن المؤلف يزيل هذا الالتباس منذ الصفحات الأولى ليؤكد أن الروائي الناشئ ما هو إلا إيكو نفسه الذي تأخر في إصدار روايته الأولى إلى حدود غير مألوفة بالنسبة لبواكير الكتاب، والذي ما يزال يعتبر نفسه ناشئاً لأنه وهو يغوص في سبعينياته لم يصدر سوى خمس روايات لا أكثر. ولعله من باب المجازفة أن يغامر كاتب ما بالكشف عن خلطته السرية التي يستخدمها للحصول على رواية ناجحة. إذ أن ذلك يبدو شبيهاً برؤية المرء عارياً أو بفضح ما ينبغي أن يظل من المسودات والتمرينات الأولى بعيداً عن أنظار القراء. ومع ذلك فإن إيكو لا يكتفي بتقديم المفاتيح الغامضة والسرية لمؤلفاته الخمسة بل يضع في بعض الأحيان خرائط توضيحية لإرهاصات الكتابة، ويقدم في أحيان أخرى مقارنات مختلفة بين لبنات الأفكار والهواجس وبين النصوص السردية بعد اكتمالها. ومع أن نسمة من الدعابة تهب أحياناً من جهة المؤلف، كأن يسأله أحد محاوريه: كيف تكتب؟ فيجيبه صاحب بندول فوكو: من اليسار إلى اليمين، كما هو الحال في اللغات اللاتينية، دون أن يغفل الإشارة إلى أن هذه الطريقة في الكتابة تثير حيرة الذين يكتبون من اليمين إلى اليسار كالعرب وغيرهم. وفيما يغوص المؤلف في الكشف عن طقوسه واختباراته التحضيرية يذهب إلى القول بأن الإلهام كلمة سيئة وملتبسة، ويرى بأن العبقرية لا تغطي سوى عشرة في المئة من العمل الفني. أما التسعون المتبقية فيتكفل بها الكد والاشتغال والجهد الفردي. وما يلفت في هذا السياق هو كشف إيكو النقاب عن آلاف الوثائق التي جمعها من أجل كتابة رائعته الروائية اسم الوردة، إضافة إلى بورتريهات عن الرهبان الذين أدخلهم في عمله، ونماذج عن القلاع والأديرة وصولاً إلى عادات وتقاليد العصور الوسطى. ثم يتحدث عن عشرات اللوائح المتعلقة بالألوان والعطور والحيوانات والنباتات والأماكن التي كانت توفرها له الحواسيب المتطورة، قبل أن ينتقي من بينها ما يناسب حاجات عوالمه الروائية المختلفة. ومع أنه يقف حائراً إزاء ما هو غير قابل للوصف في التنوع غير المحدود للكائنات والعوالم الأرضية الشاسعة، فهو يخبرنا مع ذلك كيف أنه اضطر قبل كتابة روايته جزيرة اليوم السابق إلى تتبع الشعاب المرجانية الهائلة في بحار القطب الجنوبي وما يسبح بينها من أسماك ومخلوقات لا تحصى. لكن الأبلغ من كل ذلك هو اعتبار أمبرتو إيكو بأن للشخصيات الروائية من الرسوخ اليقيني في أذهان الناس أكثر مما لشخصيات التاريخ التي تظل حيواتها ومصائرها موضعاً دائماً للشكوك. والسبب في ذلك، وفق إيكو، هو أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح أما الروائيون فيخلقون أشخاصاً حقيقيين من لحم ودم.

مشاركة :