ناتالي الخوري غريب، أستاذة الحضارات وأدب النهضة والمهجر في الجامعة اللبنانية. لها سبعة إصدارات: ثلاثة كتب نقديّة في الأدب الصوفي والفلسفي وأربعة أعمال أدبية تتنوع بين الرواية والقصّة والمقالة. صدر لها مؤخرا كتاب بعنوان “أزاهير العبث” ومن قبله مجموعة قصصية بعنوان “العابرون”. “العرب” حاورت الكاتبة حول أحدث أعمالها وقضايا ثقافية أخرى. "أزاهير العبث” الصادر عن دار "سائر المشرق" هذا العام هو آخر ما كتبته الروائية اللبنانية ناتالي الخوري غريب. يحوي الكتاب مجموعة من المقالات تحمل قدرا كبيرا من شعرية اللغة وعمق التفكير الفلسفي والتشبع بأسئلة الوجود. تغوض الكاتبة في أعماق الذات وتطرح تأملاتها عن الحياة بأفراحها وأتراحها في لغة كثيفة الدلالات وعميقة المغزى، لتقترب بشكل أكبر من الشعر. وتلفت غريب إلى أن ثمة لغة تتقنها الروح حين تكتب، ويتقنها الوجدان حين يغوص في أعماق الذات محاولا الخلاص من متاهاتها. وبهذه الروحيّة كتبت هذه المقالات، وربّما هذا ما يجعل لغتها تقترب من جماليّات الشعريّة. ورغم أن اللغة لدى الكاتبة تحمل قدرا كبيرا من الفضاء الشعري إلا أنها ترى أن للشعر طقوسا أخرى وبواعث ولغة مختلفة وإيقاعا آخر. فهي لم تكتب يوميا قصيدة واحدة ولم تدّع ذلك يوما. الكاتب لا يقرّر أن يكون شاعرا أو لا، فالشعر موهبة وفطرة ومن ثمّ دُربة. وما نراه في بعض قصائد النثر من وجدانيات منثورة بأنساق هندسية معيّنة، لا تجعل منها نصوصا شعريّة. حتى التنظير في الشعر، تفكيكا ونقدا، لا يمكن أن يُعطى إلا لشاعر، لأنّه يعيش الحالة، يعيشها وهجا واهتزازا كيانيا لأنّه يعبر بكلمات قليلة عن موقف من العالم وما يحدث فيه. الشعر موهبة وفطرة ومن ثمّ دُربة. وما نراه في بعض قصائد النثر من وجدانيات منثورة بأنساق هندسية معيّنة، لا تجعل منها نصوصا شعريّة وفي الحديث عن التكثيف والعمق تقول هما غير محصورين بالكتابة الشعريّة، وبخاصّة نحن الآن في مرحلة “هجرة الأجناس الأدبيّة” وتداخلها، فالتكثيف والعمق ضرورة يحتّمها الموضوع المطروح، سواء أكان مقالا أم قصّة أم رواية أم شعرا. واللغة المسبوكة من دون تكلّف أو تصنّع تجد لذاتها دلالات تحمل سياقاتها معها. طرح التساؤلات تتحدث غريب عن بداية شغفها بالكتابة بقولها كنت قارئة نهمة جدا، ومازلت. كنت أقرأ ما لا يقل عن أربعة كتب أسبوعيا، أستعيرها من المكتبة البلدية زمن دراستي المتوسطة والثانوية، إلى أن بدأت بكتابة خواطر وجدانية كنوع من أنواع تفريغ الشحنات العاطفية، كان فيها التوق إلى عالم المثال كبيرا كما في جميع كتابات المراهقين. وفي منهجية هذه الكتابات، توّجهت إلى التخصّص في الأدب العربي، إجازة، فدراسات عليا، فدكتوراه في الأدب الصوفي. وفي مرحلة الدكتوراه شعرت أنّ الأدباء موضوع دراستي متخصّصون في الفلسفة، فكان عليّ لكي أغوص في عوالمهم أن أدرس الفلسفة من نقطة الصفر، فعدت إلى الجامعة أيضا، ودرست الفلسفة، والآن دكتوراه في الرواية الفلسفية. في مرحلة دراستي الفلسفية شعرت بحاجتي إلى الكتابة، لطرح التساؤلات الكثيرة التي تعجّ بداخلي، بدأت بكتابة مقالات وجدانية تأمّلية، ومن ثمّ حان وقت كتابة روايتي الأولى حين تعشق العقول، التي ضجّت في عقلي وقلبي على مدى سنوات كثيرة إلى أن رأت النور في عن دار سائر المشرق في العام 2014. التطوّر في الكتابة لا يمكن أن يتّم إلا بالقراءة الدائمة للإصدارات الحديثة كما التراثية. على الكاتب أن يرمي نفسه في الحياة، بمعنى أن يكون عرضة للاختبارات والقراءات والمفردات الجديدة، لأنّ كتابته هي مجموع تراكمات خبراته وقراءاته وهواجسه. عليه أن يغسل مفرداته كلّ فترة كي لا يكرّر نفسه، وهذا لا يتم إلا بالغرف من منابع متجددة. أسئلة الوجود ثمة أسئلة وجودية تحرك قلق الكاتبة وتثير عقلها. يتبدى ذلك بوضوح في مجموعتها القصصية “العابرون” وفي كتابها الأخير، كما في روايتيها “حين تعشق العقول” و”هجرة الآلهة والمدائن المجنونة”، تُبيّن غريب أن “الوعي الإنساني يتفتّح على دهشة تفرض عليه أسئلة كثيرة، الوعي ينمو بالبحث عن إجابات لأسئلة تقلقه وتشكّل هاجسا يتحوّل إلى بحث عن خلاص وطمأنينة. ربّما اصطدامها بالموت في مرحلة المراهقة، لأحد إخوتها، جعلها تطرح أسئلة كبيرة لم تغفُ يوما في بالها، والأسئلة خصبة التوالد والتناسل. غوض في أعماق الذات وتأملات عن الحياة تتابع “أمام الموت، نقف أمام سرّ كبير نحاول تفكيكه والغوص على خباياه التي تجعل رؤيتنا إلى واقعنا مبنيّا على محاولة إيجاد أجوبة تضعنا في اليقين، واليقين من مستحيلات الحياة في عدم ثباتها، لذلك تبقى الأسئلة الوجودية حاضرة، عن الزمن، عن الحياة بعد الموت، عن النفس الإنسانيّة في تقلّبات مزاجها وأسباب جنوحها، عن الوجع غير المتناهي، عن الحروب العبثية التي لا تنتهي. فالوجودية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، مع جان بول سارتر وألبير كامو، جاءت في عبثيتها وتمرّدها ردّة فعل على تمظهرات العبث في الحرب غير المجدية ورؤية الموت والجثث والدمار في كل مكان، من أجل ماذا؟ لذلك، تأتي الكتابة هنا كسؤال عن العدالة الموعودة على الأرض كما في السماء، عن تقاعد الله وتقاعسه عن الإصغاء إلى صراخ الناس وأوجاعهم وآلامهم، تأتي الكتابة محاولة لفهم هذا العالم الذي نعيش فيه، وعينا الدائم لعدم ثباته، وكأنّنا على ‘أرض قلقة’ لا نعرف ما هي رسالتنا، إن كانت ثمّة رسالة ولا متى تبدأ أو متى تنتهي؟”. ترى غريب أنه لا يمكن أن ننظر إلى العمل الأدبي بعيدا عن جوهره الفلسفي الذي يبني عمارته. فالفلسفة هي بحث عن معنى حياتنا وجدواها. هي فنّ تبسيط الحياة، وهي سبيلنا إلى البحث عن السعادة، كذلك العمل الكتابي، لا أراه بعيدا عن الغاية الفلسفية في إدراك أنفسنا، وتاليا إدراك مكامن سعادتنا التي تختلف من إنسان إلى آخر. الكتابة في أحد مناحيها تتمتّع ببعد جمالي كامن في تآلف الأعماق مع السطوح وصراعهما في حيّز لغوي يخلق صورا يريد منها القارئ أن ينطلق من واقعه وأسئلته وهواجسه وأوجاعه إلى فضاء تخييلي ممكن تحقيقه. وفي الأدب المعاصر، غربيّا، نأخذ مثالا ميلان كونديرا، الفيلسوف الفرنسي من أصول تشيكية، الفلسفة أساس يبني عليه رواياته، ونستطيع أن نستخلص منظومة فلسفية، لكن الأهم أنهّا تضيء على ربط هذه الفلسفة بالواقع الإنساني، ما يجعل من قراءتها شكلا من أشكال الاستنارة تحلو قراءتها في كلّ زمان ومكان. واقع الأزمات تشير الكاتبة اللبنانية إلى أن ما تشهده الرواية العربية اليوم، هو الالتزام إلى حد بعيد بواقع الحروب والأزمات التي تعيشها المنطقة العربية في ظلّ ما يسمّى الربيع العربي، وكلّ كاتب عالج واقع أزماته من منظور خاصّ. ويؤخذ على كلّ كاتب لا يلتزم بقضايا وطنه ومجتمعه، بأنّه مغرق في الهروب إلى عوالم غير نافعة للناس عملانيًا. ما يعيدنا إلى مرحلة عاب الكثير من النقاد الكتاب الذين لم يلتزموا بلدانهم في الأزمات الوطنية والقومية والاجتماعية. عابوا عليهم اهتمامهم بالماورائيات وبعدهم عن الالتزام بهمومهم الوطنية والقومية وجنوحهم التخييلي في عالم الأرواح، مثل المآخذ التي سجّلت جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. قراءة الإبداع لا تستفز العقل مثلما تفعل كتب الفكر وحفريات التاريخ واللغات والعقائد والثقافات عموما، لكنها تشذب اللغة وتثري الـمخيلة، ويحتاج الكاتب إلى الاثنين معا أخذوا عليهم إغراقهم في عالم الماورائيات والأرواح والثيوصوفية واللاأدرية في مرحلة كان الوطن يعجّ بالأزمات. لكن هذا النوع من الكتابات سجّل بصمة في عالم الأدب تتخطّى كل زمان ومكان. وجداننا هو الذي يتحكم بالعمل الإبداعي، فلسفتنا الحياتية، بنيتنا الفكريّة والذهنية والدينية هي التي توجّهنا. العالم يتغير بوتيرة سريعة، كذلك الأدب يصوّر هذه التغيّرات. ويبقى أن نقول إنّ لكلّ نوع أدبي أو موضوع أدبي، متذوقيه ومحبّيه وكتّابه وقارئيه. ازدهار وتطور لا تهتم غريب بالتفكير في العملية الكتابية ممثلة في مثلث الكاتب-القارئ-المقروء أثناء الكتابة، فحين يشعر الإنسان أنّه يكتب بروحه وكيانه، يكتب وجعه وأمله ورجاءه. لكنها ككاتبة تعرف أنّ الهمّ الإنساني واحد، وأنّ النفس الإنسانيّة تتشارك مع الآخرين همومها ومآزمها، وبخاصّة عند الذين يعيشون هواجس واحدة، كالحبّ والفرح والحزن والشكّ واليقين والموضوعات التي تطال الوجدان وتحفر فيه عميقا. والقارئ الحصيف، هو الذي يغني النص المقروء ويعطيه أبعادا أخرى وفقا لخلفيته الثقافية وحاله الوجدانيّة. تنهي الكاتبة حديثها بالتطرق إلى حال المشهد الثقافي الراهن في المجال الأدبي شعرًا ونثرًا ونقدًا في بلدها لبنان، إذ ترى أنه يدعو إلى التفاؤل. فكما كان لكلّ عصرّ مجدّدوه وكلاسيكيّوه، مبدعون ولامعون وعاديّون مقلّدون، والصراع بين الطرفين لطالما كان قائمًا في أفضليّة هذا الطرف على ذاك، كذلك اليوم. لكن الفرق أننّا الآن نقرأ أقلامًا كثيرة، ومحاولات جديّة وتجديدية في آن على تفاوت في المستويات، وبما أنّنا في عصر غدا فيه الانتشار أكثر سرعة، بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، لكن طبعا، يبقى أن نعترف أن النقد الأدبي يضفي إلى النصّ الأدبي شرعيّة من نوع ما، شرعيّة الاعتراف بميزات جديدة يحملها هذا النصّ دون غيره، ونحن نتكلّم طبعا عن النقد العلمي، وليس الرائج من الانطباعي أو المدحي. الرواية اللبنانية في ازدهار وتطوّر، ربمّا تحتاج اهتماما أكبر بالتقنيات، وتأمّلا أو توجها نحو القضايا الإنسانيّة العامّة، لأنّها حصرت نفسها لفترةطويلة في المحلّي والبيئة المحلية والقضايا المحليّة.
مشاركة :