ناتالي الخوري غريب تكتب قصص الوجود في «العابرون»

  • 12/31/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

ما هو سبب وجودنا؟ لمَ الهروب؟ هل قسوة الحياة وظلمها يجعلاننا نتهرّب من مواجهة مصائرنا؟ أنحن حرف زائد في هذا الوجود؟ أم ماذا؟ أسئلة وأسئلة تطرحها الكاتبة نتالي الخوري غريب، باحثة عن مغزاها، وهي كاتبة وأستاذة جامعية، وتنوّعت أساليبها وتشكلت مواضيعها، في مختلف مؤلّفاتها، لتخرج بمجموعة متنوّعة من القصص، تعبّر عن جزء من واقع نعيشه، ممزوجة بأقدار وأوهام وأحلام. «العابرون» (دار الإبداع) هي مجموعة قصصية لغريب تتطرّق إلى جوانب حسية وحياتية تلمس مشاعر كاتبتها، بعدما حرّكت فكرها واستقت من ثقافتها. تمّ صوغ هذه القصص بطابع فلسفيّ شبيه بروايات سابقة للكاتبة ذاتها، لكنها أكثر تعقيداً لتنوّع مواضيعها، التي يستقل كل موضوع عن غيره من حيث الفكرة والمضمون. إذ يحاكي هذا الأسلوب، أسلوبها في روايتها «حين تعشق العقول» التي تبحث فيها عن حقيقة الحبّ والعقل، ورواية «هجرة الآلهة والمدائن المجنونة» التي تحكي أحداثاً عن معاناة الناس في مواجهة المآسي الإنسانيّة والموت في الحروب والأوبئة والإرهاب والتهجير. وتكون هذه الحال، حين يكون الكاتب شاهداً على عصره، ينقله بأمانة وحسّ إنسانيّ عالٍ، باعتبار أن المثقف له دور كبير في تغيير مصير أبناء بلاده.   لقاءات مؤجلة تبدأ الكاتبة مجموعتها القصصية بـ «الغريبان»، حكاية لقاء عاشقين جمعتهما المصادفة والأقدار ليلتقيا في حدود السياج الذي يفصل بينهما. كان لهذا المكان خفايا كثيرة. يشير وجوده الى تأثيره والى العنصرية التي رسمها فاصلاً بين الأحبة والخلاّن، ليفترق العاشقان ولا يعرف كل منهما مكان الآخر، ويتيها في أرجاء الأرض ينتظران لحظة لقاء تغيّر الأقدار. تشوقنا الكاتبة للحظة لقاء، يليها فراق، وهكذا حتى ينتصر الحب أخيراً، هادم هذا السياج: «فلنصغ معاً إلى صوت الحب والحرية فينا... لم يكن الحب يوماً قيداً». «جبل الأماني» قصة غريبة نوعاً ما وإن كانت تلامس واقعنا هذا. قصة نسجت حكاياها بخيوط الخيال والواقع في آن، لتصف الكاتبة في بدايتها الشجرة التي تحقق الأماني، شجرة قابعة على جبل، شامخة تمثل كل حبة خردل مقطوفة أمنية تأخذ مكانها، أمنية مملوءة بالحزن والأمل والانتظار. تروي القصة صداقة تربط بين عائلتين، لتتحوّل العلاقة في ما بعد، على ما تصفها الكاتبة، علاقة تمنّن ومطالبة برد المعروف، فتخلق عداوة بغيضة في النفس، وترجّح الكاتبة سبب تغيّر النفوس إلى جينات الشر المخبوءة في نفس الإنسان الأمّارة بالسوء. وتتطرّق الكاتبة للحديث عن عصابات سرقة الأعضاء البشرية، الذين يستهينون بالإنسان وبقيمه، فيستبيحون أعضاءه متستّرين خلف شعارات واهمة يضعونها لأنفسهم. ثم تنتهي القصة بقطع الشجرة ومحو كل الأماني وتحطيمها، فتطير الأمنيات المعلقة جميعها.   أسرار الوجود تدخلنا الكاتبة في قصة «كتاب الناسك» إلى عالم الجريمة، فتأتي بحادثة ترويها بأسلوب بوليسي شيق يلفّه الغموض وروح الاكتشاف. ترسم بكلّ دقّة لوحة حزن مفصّلة، وكأنّ القارئ موجود في هذه الواقعة، وشاهد على فظاعة الموت والقتل، وما يتركه من حزن وأسى على وجوه المحبّين والمقرّبين. بطل القصة غريب هارب من حياته، باحث عن ذاته وعن وجوده، لا ينوي العودة إلى عالمه حتى حصوله على أجوبة لتساؤلاته ومعرفة كتاب الأسرار وفحواه. تمزج الكاتبة الحلم بالحقيقة في هذه القصة، إذ يرى بطلها الهارب حلم حضور الناسك ليخبره بأنه ما زال غير جاهز لكشف الحقيقة وقراءة الكتاب. قلبه خالٍ من الحب وحياته تفتقد الحرية، فالحب والحرية حبيبان أزليان لا يثمر واحدهما من دون الآخر. وفي النهاية تعلن الكاتبة براءة بطلها من جرم لم يرتكبه. أما في «قوارب الموت» فنجد قصة حزن وألم تروي مأساتها الكاتبة على لسان أبرياء، فقدوا أحبتهم. أحبة لم يجدوا سوى البحر منقذاً لهم من واقع مرير عاشوه، قد لا يكونون مذنبين، لكنّ الظلم والاستبداد دفعاهم الى الهروب، عابرين بحور الظلمات. إنها قصة تحاكي واقع الهجرة عبر البحر والموت فيه. أعطت الكاتبة للبحر وصفين أوّلهما: المخلص من القهر والعذاب والمصغي الى الهموم والقلب الواسع الذي يزيل الأحزان فيتلقاها بصدر حنون، وثانيهما هو الموت الذي يلاقي به الهاربين فينهي حياتهم وآمالهم وطموحاتهم. وفي قصة «عودة الابنة الضالة» التي تختم بها الكاتبة مجموعتها الشيقة، يجد القارئ نفسه أمام نهاية حزينة، تخللتها عبرة وموعظة. قصة عائلة مؤمنة بقضاء الله وقدره، امتحنها الله بولد مريض، فكانت الأم شاكرة لفضل الله عليها، وكان الولد دائم البسمة والطيبة التي تترك أثرها على وجه كل من ينظر إليه، وكانت للعائلة ابنة تذمرت من امتحان الله لعائلتها. فتروي الكاتبة بأسلوب جدليّ، هواجس الابنة التي كثرت تساؤلاتها عن وضع أخيها، إذ تستغرب مكافأة الله لعائلتها الشاكرة على الدوام والداعية له في كل حين وفي كل حال. تفقد العائلة هذا المريض، فتراجع الابنة نفسها مراراً، وتحنّ لوجه لطالما كان كالنور في عتمة الظلام، والابتسامة التي تمدّ العائلة بالطاقة. يرحل تاركاً فراغاً، تحن له في كل ركن، وكل لحظة تمرّ وهو ليس فيها، الى حين أن ترزق البنت التائهة بولد فتسميه رضا تخليداً لاسم أخيها. تكتب غريب قصصها بشاعرية مرهفة تلمس مشاعر القارئ وتعيده الى أجواء الرومنطيقية المغيبة. أحداث تحرّك مشاعر القارئ، فيما تفرض الحكمة وجودها كركنٍ أساسيّ لكلّ قصة، أما الفلسفة فكانت هي العنصر الأول الذي تفرّعت منه جميع العناصر الأخرى.

مشاركة :