ناتالي الخوري غريب تناقش مقولات كامو الفكرية

  • 5/10/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ألبر كامو من أبرز من مثلَّ الفكر في منتصف القرن العشرين وعبرَ من خلال مؤلفاته الفلسفية والأدبية عن معاناة الإنسان الوجودية لافتاً إلى أنَّ مايُعمق الشعور بالعبث في الحياة هو التوتر بين تطلعات المرء وعالم مُخيب للآمال وهذا ماحدا بصاحب "الغريب" أن يتساءل هل تستحقُ الحياة العناء أو لا؟ مشيراً إلى أنَّ الإجابة على هذا السؤال بمثابة وظيفة جوهرية للفلسفة.ولاتزال أفكار مؤلف "الطاعون" تحتفظُ براهينتها، لأنَّ ماتناولهُ في أعماله لاتخالطه شوائب الأدلوجة مايعني أنَّ كامو لم يغادرْ الأفق الإنساني .الأمر الذي يكسبُ أثره أهمية. تناقشُ الأكاديمية والروائية اللبنانية "ناتالي الخوري غريب" في إطار هذا الحوار مقولات كامو الفكرية وبذلك يكون التعاطي معه بمنطق تحويلي بعيداً عن المنزع الترويجي للفكر أو الشخص. 1- كيف تفهمين مايقولهُ ألبر كامو "إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فاكتب الرواية"؟ أظنّ أنّها محاولة في إعطاء الأهمية إلى فلسفة المعيش بعيدًا من التنظير والتجريد، أو فلنقل كيفية نقل الفلسفة من حيّز التصوّرات إلى فضاء المحسوس من خلال الرواية. وقد جاءت عبارته هذه في معرض كلامه على أهمية الرواية ودورها، في كتابه أسطورة سيزيف:" الروائيّون الممتازون العظام، هم الروائيون الفلاسفة-اي أضداد كتّاب البحوث-مثلًا بلزاك، ومليفيل، وستندال، ودوستويفسكي، وبروست، ومالرو، وكافكا..كامو.. والحقّ أنّ تفضيلهم الكتابة بالتصوّرات بدلًا من البحوث المشبعة بالتعليل العقلي يوحي بفكر معيّن يشتركون فيه معًا، بعد أن اقتنعوا بلا فائدة أيّ مبدأ تفسيري، وبعد أن وثقوا من الرسالة التثقيفيّة التي يضطلع بها المظهر المحسوس. وهنا لا بدّ من أن نتذكّر أن كامو -الذي نال جائزة نوبل للآداب العام 1957-يجاهر بأنّه ليس فيلسوفًا، بمعنى عدم وجود نظام فلسفيّ في كتاباته، إلا أنّه كفيلسوف تابع ظاهرة معيّنة في معنى الوجود وعبثيّته، من خلال المعيش، وقد اختار الأدب، رواية ومسرحًا، لتبسيط أفكاره في مقابل الكتابة الفلسفية الأكاديمية، ونحت التصوّرات الميتافيزيقية والأنطولوجية التي تعجّ بها الفلسفة الجامعية في فرنسا وألمانيا. فالرواية تستطيع القبض على اللحظة الأنطولوجية في المعيش الحياتي اليومي، بعكس لغة المفاهيم التصوّرات، وذلك من خلال تجاربه الشخصيّة وحياته. 2- إذا، كيف يمكن تصنيف نتاج ألبيركامو؟ فلسفي أم أدبي؟  سؤالك يضطرني إلى العودة لإجابته في إحدى مقابلاته بأنّه لم يؤمن بالعقل بما يكفي ليؤمن بالنظام" وفي في دفاتر ملاحظاته يقول:"أفكّر وفقا للكلمات وليس للأفكار". مع ذلك رأى سارتر أنّ كامو شرع في مشروع فلسفي مهم ّبعد قراءته الغريب. وفي سيزيف جمع سارتر كامو مع باسكال وروسو ونيتشه. وقد ميّز سارتر عبثية كامو عن فلسفته الخاصة التي قبل فيها وسم الوجوديّة الذي رُفض من كامو الذي فضّل "أن يفكّر في فنّ العيش في زمن العدميّة". وفقا لكلام ميشال أونفري عنه. ومنذ تلك السنوات، كانت سمة فلسفته غير النظامية، والمناهضة للفلسفة بشكل واضح، قد عنت أنّ عددًا قليلًا من العلماء قدّروا عمقها وتعقيدها. أشادوا بإنجازاته الأدبية البارزة، وموقفه كسياسي أخلاقي، بينما اكتفوا بلفت الانتباه لادّعاءاته المشكّكة وحججه الإشكالية" بحسب ما قاله آرونسون.  الا أن ّهناك استثناء، وهو كتاب رونالد سريجلي، نقد ألبير كامو للحداثة 2011، وجاء فيه أنّ "أفكار كامو الفلسفيّة تجد التعبير المباشر عنها والتطبيق الخصب لها في مجال الفنّ. وفي هذا الإطار، اعتبر الكثير من النقّاد"أنّ استطيقا كامو تفيدنا في الكشف عن موقفه الفلسفي خيرًا من أيّ مجال من مجالاته الفكريّة"، فالفيلسوف الفنّان يفكّر ويؤلّف كفنّان، وليس كأستاذ، أي أنّه يفكّر ويكتب بأسلوب وجودي وليس عقائدي(دوغمائي)، ويطمح إلى أن يعيش حياة فلسفيّة بعيدًا السفسطة واستخدام البلاغة بحسب أونفري ايضًا.  وبما أنّ مؤلّفات كامو تركّز على العبث محورًا لها وبنية، والفلسفة العبثيّة متناقضة بشروطها، وبخاصّة كما يطرحها كامو، هنا يصحّ التساؤل إذا كان من الممكن أن ينتج العبث فلسفة، لأنّه حالة ضدّ العقلانية. وكامو في حوارات كثيرة مع الصحافة، كذلك في "أسطورة سيزيف"، يظهر مواقف مناهضة للفلسفة، لذلك يتساءل بعض دارسيه "ما الدور المتبقي للتحليل المنطقي والجدل؟ وإذا كان لنا من محاولة للإجابة في هذا السياق، يمكن القول إنّ كامو في كتاباته حول الإنسان وعلائقه ومصيره وسعادته وسبل عيشه، أسّس لفلسفة في المعيش من خلال الرواية والمسرح، وقد تمّ استخراج منظومة فلسفية منها. 3- هل "الانتحار" كما رأى صاحب "الغريب" هو مشكلة فلسفية وحيدة والحكم بأنَّ الحياة تستحقُ أن تعاشُ يسموُ إلى منزلة الجواب الأساس في الفلسفة ؟ كأنّك تطرح في سؤالك ما تنطوي عليه فلسفة كامو من خلق أزمة وجوديّة والإشارة إلى حلّها أو معالجتها، وهذا ما أجاب عنه أونفري بالقول إنّ كامو  أقرب إلى طبيب للحضارة وكائن قادر على تشخيص العدميّة ومعالجتها. وفقا لكامو ينتحر الناس لأنّهم يحكمون على الحياة أنّها لا تستحقّ العيش. يعتمد الوصف، السرد، التفسير، من أجل الوصول إلى حقيقة الأشياء. يرى كامو مسالة الانتحار استجابة طبيعية لفرضية أساسية، أي أنّ الحياة عبثية بعدّة طرق. وجود الحياة وغيابها يبران تساؤلاته: من العبث أن نبحث باستمرار عن معنى الحياة، حين لا يكون هناك معنى. ومن العبث أن نأمل بشكل من أشكال الوجود بعد فنائنا. وبما أنّ المزاج العبثي واسع الانتشار في عصرنا، لم ينبثق من الفلسفة، بل كامن في قلبها.لا يجادل كامو حول عبثية الحياة أو يحاول شرحها، فهو غير مهتمّ بعواقب كليهما، إذ لن يسهم أيّ منهما في الإسهام بتقويته كمفكّر."إنّني مهتمّ بعواقب الاكتشافات العبثية، أكثر من الاكتشافات نفسها". فوق هذا يسأل كامو مع قبوله العبثية كمزاج لكلّ زمن، ما إذا كان يجب أن نعيش وكيف نواجه ذلك؟"هل العبثية املاء للموت"؟ يجب رسم طرق لعيش حياتنا، لنجعلها مستحقّة للعيش، بغضّ النظر عن انعدام معناها."ومن ثمّ يستأنف كامو في "الإنسان المتمرّد" ما تغاضى عنه في أسطورة سيزيف. حيث يعود من خلال المنطق الجدلي إلى روح المنطق العبثي. وقد كانت خلاصته في نبذ الانتحار وقبول المواجهة البائسة بين صمت الكون والتساؤل الإنساني. وإذا خلص إلى غير ذلك، فإنّه سينفي فرضيّته أي وجود المتسائل أنّ العبثية يجب أن تقبل الحياة بشكل منطقي كشيء جيّد للضرورة." 4- هل يصحُ القول بأن توصيف كامو للإنسان بانَّه "المخلوق الوحيد الذي يرفضُ أن يكون ماهو عليه " هو المدخل الأمثل لإدراك طبيعة الكائن البشري؟ أورد كامو هذا الكلام في معرض تعريفه عن التمرّد والإنسان المتمرد"يرفض أن يكون ما هو عليه"، فهو لا يكتفي بتقديم تعريف للتمرّد وتفسير بنائه الديالكتيكي فحسب، بل إنّه يقدّم لنا كذلك مفتاح فهم تفكيره الفلسفي على المستوى الجمالي والتاريخي معًا. وهذا ما خصّصه في الفصول الأخيرة من كتابه الإنسان المتمرّد. يعرّف التمرّد الماورائي كامو في كتابه الإنسان المتمرّد بأنّه"الحركة التي يثور بواسطتها إنسان ضدّ وضعه وضدّ الخلق كله. إنّه تمرّد ما ورائي لأنّه ينكر غايات الإنسان والخلق. يحتجّ ضد الوضع المخصّص له كإنسان. ومطالبة معلّلة ضدّ آلام الحياة والموت. المتمرّد يرفض وضعه الفاني وفي الوقت عينه يرفض القوّة التي جعلته يعيش في هذا الوضع. فالعبثيّة لا تقيم في العالم بل تظهر من خلال علاقتنا بهذا العالم. بهذا من خلال الرفض أو التمرد يمكن للإنسان أن يدرك طبيعة الكائن البشري. 5-  "إنّ كلّ مايعظم الحياة يزيدُ في الوقت نفسه من عبثها" ماهو المغزى الفلسفي في منطوق هذه العبارة؟ في الاستجابة لإغراء الحياة ينصح كامو بوعي ونشاط لا يرمي إلى حلّ. فأسباب السعادة والتعلق بالحياة هي عينها أسباب التعاسة ودافع اللاجدوى منها. وعلينا أن نعرف كذلك،  إنّ رفضه أيّ أمل في حلّ الجهد من أجل ايجاد الحلول النهائية هو أيضًا رفض لليأس. فنصوصه كانت مبّشرة بفلسفة تتمركز حول معنى الوجود، والإصرار على إيجاد هذا المعنى، زمن الحروب العبثية وتوقيت الخروج من الحرب العالمية الثانية، وما كثرة إنتاجاته الأدبيّة والفكريّة إلّا محاولة إثبات محاربة العبث بمعنى ما من أجل الانتصار للحياة، وهذا ما كان يصوغه تباعًا في مؤّلفاته، الروائيّة والمسرحيّة والقصصيّة والفكرية وأدب الخاطرة. يشدّد كامو على  اليقين الواعي دون أمل" "لا توجد سعادة إنسانيّة خارج منحى الأيّام. لا مغزى في سعادة الملائكة. لا يوجد شيء سوى هذا العالم، هذه الحياة، الحاضر المباشر. 6- "إن كانت هناك خطيئةُ ضد الحياةِ فهي ليست اليأسَ منها بقدر ماهي الأمل في حياة أخرى" هل مايختبرهُ الإنسان في هذه الحياة يستحقُ إلغاء الاحتمال بوجود فرصة أخرى ؟ نستكمل هنا ما جاء في السؤال السابق. الأمل هو الخطأ الذي يرغب كامو بتجنيبه للناس. رفض ل "ضلالة الأمل" بناء على صندوق باندورا لنيتشه". "الأمل كارثي بالنسبة إلى الإنسان، لأنّه يقوده إلى تقليص قيمة هذه الحياة وجعلها مجرّد تحضير لما بعدها. وهذا ما جاء في كتابه أعراس، مرحلة كتاباته الأولى.إذ يعتقد كامو أنّ الأمل الديني يقتل شيئًا فينا. فيدعو الإنسان أن يشيح النظر عن الحياة نحو شيء سيأتي لاحقًا. لذلك نراه يردّد"مملكتي من هذا العالم"، في انتقاد واضح ومباشر لمقولة المسيح:"مملكتي ليست من هذا العالم". ربّما نعتقد أن مواجهة عدمّيتنا التامة ستكون أمرًا مريرًا، لكنّه بالنسبة إلى كامو أمر إيجابي. لقد شكّل الاهتمام بالبعد العاطفي المقرون بواجب السعادة على أنّه اختيار  في أعراس"، برهانًا عند كامو على قدرة الإنسان على السعادة حين يتخلّى عن الأمل الأخروي، وعدم اليأس في الوقت عينه. إذ يخبرنا أن الحاضر مضيء وأنّ بإمكاننا تقدير الحياة وتجربتها، بشرط أن نكفّ عن محاولة تجنّب موتنا المطلق والحتمي. 7- يقول مؤلف "الإنسان المتمرد"  أنا أدرك واجباً واحداً فقط وهو الحب .ماذا عنك ماهو الواجب الأسمى بالنسبة إليك؟ أستكمل عبارة الحبّ والواجب عند كامو:"لو كان على تأليف كتاب عن الأخلاق لجعلته من 100 صفحة، 99 منها بيضاء وكتبت في الأخيرة : لا أعرف سوى واجب واحد، ألا وهو الحب" إذا بالنسبة إليه الحبّ قبل الأخلاق كي يضمن بقاءه. بالنسبة إليّ، لكل مرحلة من مراحل النضج التي يعبر بها وعينا، نرى واجبا أسمى. لا شكّ في أنّ الحبّ دافع لمزيد من الشغف بالحياة وعيشها بكلّ إمكاناتنا، إلا أنّه أيضًا سبب للبؤس، كما يرى إليه كامو. فأسباب السعادة في هذه الحياة هي عينها أسباب الشقاء. التعلّق بأمر ما، قضيّة ما، فكرة ما، شخص ما، تجعلنا في قلق دائم على خسارته وتاليا يتحوّل موضوع التعلّق إلى خوف من الخسارة. لا شيء يبقى على حاله في هذه الحياة، كلّ شيء ينتهي. هي لعبة العبث. الواجب الأسمى تجاه أنفسنا في هذه اللعبة أن نبتكر أسبابا للعيش بسعادة، أن نتجدّد بخلق معانٍ جديدة للحياة بما يتلاءم وظروفنا التي لا نستطيع أن نتجاوزها. وأن نتذكّر دائما أن أسباب سعادتنا هي عينها أسباب شقائنا. واجبنا الأسمى أن نذكّر أنفسنا بذلك دائما. فالرضى عن ذواتنا وأفعالنا، يحعلنا أناسا أكثر أخلاقيّة.  8-"يجبُ على المرء أن يتخيل سيزيف سعيدا"  هل هذا يعني أنَّ نصيب الإنسان من السعادة مجرد التخيل دون أن يدركها أو يتعقلها ؟ إنّ شخصيّة سيزيف معاصرة لمن يرغب بحكم الغريزة في أن يكون سعيدًا ويودّ لو استمرّت به الحياة إلى الأبد. إلّا أنّ رغباته تبوء بالفشل بحكم طبيعة الوجود ذاته. والعبث من شأنه أن يجعل معرفة الوجود بصورة مباشرة أمرًا مستحيلًا، ومن ناحية أخرى يقع على المرء سبيل الحصول على معرفة أعلى من مستوى المعرفة العقليّة بحسب قراءة جون كوكشناك له. وربمّا أفضل إجابة عن هذا السؤال ما جاء في كتاب أسطورة سيزيف نفسه:"السعادة والعبث ابنان لنفس الارض. إنّهما متلازمان." وهذا لا يعني أنّ اكتشاف العبث يؤدي إلى السعادة، بل الاعتراف بالعبث هو قبول لهشاشة الإنسان والوعي بحدودنا وحقيقة أنّنا لا نستطيع أن نؤمّل بتجاوز ما هو ممكن" على المرء أن يتخيل سيزيف رجلا سعيدًا"، لتغدو الخلاصة هنا، قبول الإنسان بهشاشته والوعي بحدوده، هي ما تجعله سعيدا، أو على الأقل تجعله قادرا على الحصول على نصيبه من السعادة إذا عرف كيف يسعى إليها وأين. ف"أفراح سيزيف كامنة فيه. قدره ينتمي اليه. وصخرته ملكه، سيزيف سيّد أيامه. من خلال إدراكه لذلك، هو يملك زمام أمره.

مشاركة :