يتساءل الدكتور يوسف زيدان عن سر بقاء بعض الثقافات والأمم على مر العصور المتعاقبة رغم التحديات ومحاولات وأدها، بينما البعض الآخر من تلك الأمم اختفى واندثر كالهنود الحمر والسكان الأصليين لأستراليا وغيرهما.. ثم يجيب الكاتب عن تساؤله بأن السر الحقيقي لبقاء تلك الأمم هو الاهتمام بثقافتها ومخطوطاتها وكتبها، وأنه متى ما وجد كتاب وثقافة يحفظان هوية تلك الأمم فإنه من الصعب اندثارها واختفاء هويتها، ومتى ما كانت تلك الأمة تقرأ فإن تلك القراءة هي سر البقاء، فالقراءة هي غذاء العقول ومصدر الطاقة للأرواح التي تنطلق في فضاء أرحب لنهضة أمتها ونهضتها. ويستدل بأنه لمحاولة طمس أي نهضة ومحو أي أمة من صفحات التاريخ فما عليك سوى القضاء على ثقافتها ومنع أجيالها من القراءة وحرمانهم من ثقافتهم والثقافات الأخرى، ويستدل بغزو جيوش هولاكو الذي كان كارها للثقافة العربية والإسلامية فقام برمي كل ما حوته مكتبة بغداد من علم ومعرفة ومخطوطات في نهر دجلة. إلا أن ذلك القائد المغولي لم يتنبه إلى الكتاب الذي هو مصدر إلهام لتلك الأمة، والذي حافظ على هويتها وثقافتها ولغتها، رغم محاولات الاستعمار المتكرر للاستيلاء على تلك البلدان الإسلامية وإزالة معالم ثقافتها وهويتها، وأن ذلك الكتاب قد سكن قلوب أتباعه وعقولهم. وعندما تعرضت اليابان لأكبر هزة في تاريخها بعد قنبلة هيروشيما وناجازاكي، راهن الكثير على أن تلك الأمة لن تتعافى، إلا أنه وخلال سنوات قليلة نهضت الأمة اليابانية ولحقت بركب الحضارة وظلت منفتحة على الثقافات الأخرى، بل وقامت بترجمة الآلاف من الكتب (بما فيها المؤلفات العربية) إلى اللغة اليابانية لتستطيع دراسة الثقافات الأخرى وتحقيق المصالح الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، من خلال معرفة الطرف الآخر. إن القراءة هي اللبنة التي تبنى بها الحضارات وهمزة الوصل بين الثقافات المتعددة، والقراءة هي التمرين الأنسب الذي يجعل العقل قادرا على الإبداع ومحتفظا بقوته وتركيز ذاكرته، ومقاوما للأمراض ومتحررا من التوتر والقلق. وحيث إن كل عضو في الجسم يحتاج إلى غذاء ليظل قادرا على الحياة فإن القراءة هي غذاء العقل والروح معا. وللأسف فقد انشغلت الأجيال الحالية بوسائل التواصل، وقابل ذلك الانشغال عزوف عن القراءة التي أصبحت تقتصر فقط على المقرر الدراسي من أجل اجتياز الاختبارات. يقال إن أول مكتبة وضعها الفراعنة كان مكتوب على بابها (هنا غذاء النفوس وطب العقول)، اندثر الفراعنة بعقاب إلهي وظلت معالم حضارتهم سرا لم تستطع الأمم اللاحقة فك أحجيته أو محاكاته. ولبيان أهمية القراءة في صنع مستقبل الأمم وبناء حضارتها وسؤددها علينا أن نتذكر أن أول كلمة نزل بها جبريل عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت كلمة (اقرأ). إن القراءة هي سر الحضارات ومصدر المبدعين والمخترعين والأدباء والمفكرين، والأمم القارئة هي الأمم القائدة، والذين يقرؤون هم الأحرار؛ لأن القراءة والمعرفة تطردان الجهل والخرافة والتخلف.
مشاركة :