اختلاف واسع بين الأكاديميين والنقاد والمسرحيين من مخرجين وممثلين وكتاب شكل زخما حادا من النقاش دخل إلى مرحلة التقصير والاتهام لواقع الحركة المسرحية العربية، وذلك في إطار الندوة التي حملت عنوان "تناص أم تلاص الإخراج المسرحي بين الاقتباس والسطو؟" وهو عنوان "توريطي" ـ إذا جازت التسمية ـ لما يحمله من تشابكات وعرة، حيث أكد البعض وجود حالتي الاقتباس والسطو في أعمال إخراجية شهدتها حركة المسرح في هذه الدولة أو تلك، وطالب بتفعيل قوانين الملكية الفكرية وغيرها من القوانين التي تكفل حماية العمل الإبداعي من التلاص، ورفض البعض الآخر ذلك مؤكدا على أهمية تبادل الأفكار والرؤى وإطلاق الحرية للمخرج وحقه في تقديم رؤيته وفقا لتراكم معرفته وثقافته وإبداعه، وضرورة الحد من قيود المصطلحات والمفاهيم، كما اتهمت الإنترنت وتطبيقاتها مثل اليوتيوب بأنها فتحت المجال للتأثير والتأثر في عالم الإخراج. بدأت الندوة التي أقيمت ضمن فعاليات الدورة 28 من أيام الشارقة الثقافية، وأدارها عبدالله راشد، برؤية الممثل والمخرج والأكاديمي التونسي د. معز مرابط والتي استغرقت في جانب كبير منها في التنظير، لكنها ألقت الضوء على عدد من الجوانب المهمة. رأى د. معز أن قضية التناص والتلاص إشكالية غاية في الأهمية خاصة في علاقتها بواقع الممارسة المسرحية في الوطن العربي وسبل تطويرها باعتبارها تجمع بين مسألتين أساسيتين في العملية المسرحية: الإخراج الذي أضحى المحدد الرئيسي للعمل المسرحي ككل في المسرح المعاصر وبوصلته الجمالية والفنية والتقنية. ثانيا جدلية التناص والتلاص أو الاقتباس والسطو الحاضرة في مختلف المجالات الأدبية والفنية ومن بينها بطبيعة الحال الممارسة المسرحية. وقال إن الواقع اليوم يشهد انتشارا واسعا لمواقع وتطبيقات على شبكة الانترنت ساهمت بشكل كبير في توفير الفرصة لكافة المشتغلين بالحقل المسرحي أينما كانوا للاطلاع على تجارب بعضهم البعض وفتح الباب واسعا أمام تبادل الأفكار والرؤى في العلاقة بالصورة والمشهدية والتقنيات المسرحية، وفك عقال دينامية التأثير والتأثر في مجال الإخراج بعد أن كانت حبيسة الكتب والمنشورات ورهينة المشاهدة العينية الحية. وأضاف "لعل استفحال ظاهرة التنميط في الصورة والمشهدية المسرحية التي يعرفها المسرح في عالمنا العربي اليوم، وركون البعض إلى استنساخ تجارب الآخرين دون قيد أو رقيب وغياب المحاولات النقدية الكفيلة بوضع الأطر والآليات التي من شأنها حصر هذه الظاهرة وتبين أسبابها أو قصور هذه المحاولات عن إدراك هذه الظاهرة ومدى خطورتها الذي قد يفضي إلى نتائج وخيمة، ليس أقلها تفويت الفرصة على الجيل الجديد من المسرحيين لتوظيف هذه الإمكانيات الحديث إيجابيا في خدمة مشروعهم الفني وقتل روح الابداع لديهم. وأشار د. معز إلى سؤال الكاتب والناقد التونسي حسن بن عثمان في خاتمة مقال له جاء بعنوان "السرقات الأدبية.. الحق في اللصوصية": أي سرقة؟ أي أدب؟ أي نصوص وتناص ولصوص؟ "المسألة كلها معروضة للتفكير من قبل النصوص وأصحاب النصوص واللصوص وأصحاب اللصوص، ولكل أولئك المعنيين بالتناص والتلاص والتراص والرصاص أو الخلاص هل ثمة في هذا الموضوع من خلاص؟" المسألة معقدة وأكثر تعقيدا حين نربطها بالبحث في الحدود الفاصلة بين ما هو تناص وتلاص أو اقتباس وسطو، ليس في نص أدبي أو شعري أو نقدي ما، أو في لوحة زيتية أو تنصيبة تشكيلية أو في غير ذلك من المصنفات من غير الفنون الأدائية الحية بل في مجال أكثر اعنادا وصعوبة في تفكيك مفرداته وهو الإخراج المسرحي بما هو، أولا وبالأساس جمالية تترجمها خشبة المسرح يتداخل فيها الأداء التمثيلي ببقية عناصر العرض من سينوغرافيا وإضاءة وصوت وملابس ومؤثرات وتكنولوجيا حديثة، وتحكمها قوانين العرض الحي. وقال إن مفهوم الاقتباس أساسا يرتبط بالنص ولربما يطرح ربطه بمسألة الإخراج التباسا مع مفهومي التناص والتلاص، وهذا ما يدفع للوقوف على مفهوم هذا المصطلح وعلاقته بالإخراج والوظيفة الإخراجية، فالاقتباس يمكن اعتباره استلهاما لفكرة أو أسلوب أو تقنية ما من عمل أصلي يتم توظيفها في شكل وصياغة فنية جديدة ومختلفة عن العمل الأصلي وتعمل على أن تكون أكثر فعالية وتأثيرا على الجمهور. • تجربة الكويت مع السرقات وتوقف الناقد الكويتي د. فيصل القحطاني عند المقابلات في المصطلحات بين التناص والتلاص، والاقتباس والسطو، ورأى عدم براءة عنوان الندوة لافتا إلى أن "التناص والاقتباس" يحيلان إلى الأدب وليست الفن كفن وأن وصولهما للفن كان تاليا أضيفت، وأن من بين النقاد المشتغلين على التناص من قال يمكن أن يقع في المسرح لكنه لم يحدد هل في الأدب المسرحي أم الإخراج المسرحي؟ وقال "نأتي بمصطلحات أدبية صرفة ونقحمها على الفن، وهذه إشكالية لأن التناص ليس بالضرورة أن يكون سرقة، ولكن تقاطع أفكار، إما أن تعزز الفكرة أو تفندها، أما الاقتباس فلا بد معه من الإحالة، التناص قد يترك مجالا لعدم الإحالة، إذن نحن الآن أمام مصطلحات أدبية ونريد أن نكيفها فنيا، كيف سنكيف هذه العناوين والمصطلحات فنيا، بمعنى أنه يمكن أن يكون هناك تناص في الفكرة الإخراجية، يأخذها المخرج ويشتغل عليها، لكن من يعمل في الإخراج أو التمثيل يجدها سرقة، حتى في الأداء التمثيلي يقال أداء "كلاشيه"، أو أداء "نمطي"، لأن الفنون الأدائية والبصرية لا تحتمل التكرار لأن العلم ذاكرة حاضرة. وتحدث القحطاني عن التجربة الكويتية في إطار محور التناص والتلاص وقال "نحن في الكويت عانينا وواجهنا مشاكل كثيرة خلال العشر سنوات الأخيرة من هذا الأمر، وفي عام 2012 شكلت كاملة العياد مدير المسرح في الكويت سابقا لجنة إجازة من مجموعة كنت أحد أعضائها، وذلك انطلاقا من ضرورة إضافة عناصر جديدة للجنة إجازة النصوص، فقد بلغ الأمر حد السأم مما يحدث من سرقات أدبية وفنية، فاستبشرت المجموعة خيرا حيث ستشارك في ردع هؤلاء اللصوص حتى لا يتطاولون على حقوق المبدعين الحقيقين. بدأت اللجنة تعمل، وطبقا للقانون إجازة النص أولا ثم مشاهدة البروفة النهائية للعرض، لكننا أتينا على البروفات النهائية حيث لم نكن قد أجزنا النصوص، وجدنا مصائب، أغاني مسروقة، شخصيات مسروقة، حركات وأداءات مسروقة، فقلنا هل نوقف هذه الأعمال أم لا؟ أقل عمل كلف 200 ألف دولار؟ كيف نوقفها؟ مستحيل، وكم عملا سوف نوقف؟ وجدنا أنفسنا في مأزق، فتركنا لهم المجال مع توقيع بعدم تكرار هذا الأمر في المستقبل. شيء غريب نص عالمي لواحد من كبار المسرحيين يكتب عليه تأليف فلان الفلاني؟! شيء غريب، فتقول يا رجل اكتب إعداد فلان لو سمحت حتى نسمح بتمرير العمل، وفعلا هذا ما حصل في السنة الأولى، وبدأنا بتوعية هؤلاء الشباب أو العاملين بالحقل المسرحي، محذرين بأننا لن نجيز أي حالة سطو أو سرقة أو في الإخراج، لكننا فؤجنا بحرب ضروس علينا، هجوم قوى جدا، وكانت أكثر حالات السطو في مسرح الطفل بالذات من قبل الكاتب أو المخرج، وكلها أفلام كارتون والت ديزني المشهورة، قاومنا حتى إلى 2014 عندما توقفنا عند عمل ما، هذا العمل لم يكن يمكن إجازته، أولا النص من والت ديزني، ثانيا الإخراج والحالة والشخصيات من والت ديزني، العمل كله مسروق، فرفضناه، عاد إلينا مرة ثانية، فرفضناه ثانية، ثم ثالثة، وفي كل مرة نرفع تقريرا بأسباب الرفض، إنه الفساد، في المرة الرابعة يلغى دور اللجنة وتشكل لجنة محايدة على اعتبار أن هناك كيدية من قبل اللجنة، وتقوم هذه اللجنة المحايدة بإجازة العمل بعد رفع كلمتين "يا غبي" أو "يا حمار"، مشكورة هذه اللجنة أعطت ملاحظات قيمة وأجازت العمل، قدمت اللجنة (6 أعضاء) استقلالتها فورا. بعده شعر هؤلاء السارقون بنشوة الانتصار. لماذا حصل ذلك؟ لأننا في الكويت لم يكن لدينا قانون واضح باسم أمير البلاد إلا في عام 2016، وبالتالي هم كانوا يعلمون أنه ليس هناك قانون واضح يحاسبهم ولكن هناك قرارات وزارية وهذه لا تلزمهم. وحتى بعد صور قانون 2016 الذي شمل كل الفنون الأدائية والمسرحية والمسلسلات والاستعراضات، الحال كما هو عليه، إذن ماذا نحتاج الآن كي نوقف أو ننهي قضية السطو والسرقة؟ نحتاج أولا إلى التوعية بهذا القانون، فالكثيرون من العاملين في الحقول الفنية لا يعرفون شيئا عن القانون، ثانيا تطبيقة حرفيا. وأضاف "كثير من الأعمال استبيحت وسرقت، ربما السرقات في الماضي كانت تظل مستترة ثم تم اكتشافها، لكن اليوم وفي ظل العولمة والانفتاح على الآخر لست بحاجة أن تتعب لكي تعرف هذا سارق أم لا؟ فمن خلال الانترنت والسوشيال ميديا تستطيع أن تعرف بسهولة. من يسطو في السابق كان يسطو وله عذره أما من يسطو اليوم فهو يسطو عامدا متعمدا والهدف هو كسب مادي بحت. فمثلا مسرحية للطفل في الكويت يمكن أن يربح في أربعة أيام العيد فقط ما يقارب مليون ونصف دولار، وبالتالي لا يهم تناص أو غير تناص ولا ما بعد الحداثة ولا غيره. نحن اليوم أمام مفترق طرق إما أن ننظم ونحفظ حقوق الآخرين وحقوقنا أو يترك الحبل على الغارب والكل يسرح ويمرح وهذا ما لا أتمناه، ولذلك لا بد أيضا من الاشارة إلى أن القصور الموجود في العملية التنظيمية النقدية في المسرح العربي من إيجاد هذه الصيغ: متى أستطيع أقول إن هناك تناصا في الاخراج أو الفنون الأدائية ومتى أستطيع أن أقول أن هناك تلاصا؟ لا توجد مرجعيات نقدية ثابتة تحدد الأمر، هي مسألة ضبابية شائكة ونسبية يصعب تحديدها في الفنون. ومن ثم وجب وجود وقفة جادة من المسرحين لتحديد هذه مفاهيم التناص والتلاص وغيرها. • تجربتي مع ونوس وجهاد سعد وحكى أسعد فضة عن تجربتين شارك فيهما تكشفان ضرورة أن يكون هناك حرية لرؤية المخرج في إعداده للعمل وإخراجه، قال عن التجربة الأولى "كنت مديرا للجنة المسارح وجاء شاب اسمه جهاد سعد ليقدم مسرحية كاليجولا البير كامو، وكانت اللجنة تضم شعراء وكتابا كبار، قرأنا النص، أحد الشعراء قال إن هذا ليس نص كامي، كامو شاعر، نرفض هذا النص، قلت إنه يحق لي كمدير أن آخذ الأمر على عاتقي، ووافقوا، وأخذ جهاد النص وقدمه في دمشق، ودعوت اللجنة وسألت الأعضاء ما رأيكم بالعرض، قالوا يمكن تسميته العرض الشاعري.. المسرح عنوانه الحرية، وهناك رؤية لهذا الشاب أن يرى كامو بهذه الطريقة وهذا الاعداد الشاعري شاعرا. والمسرحية الثانية كانت لسعد الله ونوس "مغامرة رأس المملوك جابر" وأخرجها بنفسه حيث كان مغرما أن يكون مخرجا، وقدمت في مهرجان دمشق المسرحي ولم تلق نجاحا، وبالتبادل الثقافي بيننا وبين ألمانيا الشرقية ترجموا المسرحية وطلبوا منا مخرجا لإخراجها لفرقة المسرح الوطني لمدينة فاينر، فتم انتدابي من وزارة الثقافة لإخراجها، وعندما انتهيت دعوت ونوس للافتتاح ليشاهدها، وعقب مشاهدتها قال لي: هذه ليست مسرحيتي، لقد كنت أظن أنها مسرحية سيئة. فقلت له إن هذه أفضل مسرحية كتبتها، إذن اختلفت الرؤية الإخراجية. • صعوبة كشف السرقة وتناول الناقد المصري محمد مسعد في مداخلته مستويات السرقة الفنية والتناص والتأثر بين الأعمال المسرحية من خلال مدخل أساسي أشار فيه إلي أن موضوع السرقة الفنية الواضحة ربما يكون أكثر الجوانب سهولة فيما يثيره موضوع التناص والتلاص من قضايا ومستويات من التأثر والافتباس والإعداد والتعريب.. الخ. وقال "هي مستويات يمكن أن تحيلنا بشكل مباشر إلى الصراعات الضخمة بين التيارات الاجتماعية الكبرى وبشكل محدد القوى التقليدية والتحررية المتصارعة على هوية المجتمعات العربية. وعرض مسعد كيفية حضور تلك الصراعات الاجتماعية والثقافية في قضية السرقات الفنية وقدم لعدة نماذج كان أولها المعركة التاريخية بين مؤيدي المهرجان الدولي للمسرح التجريبي ومعارضيه خلال الدورات الأولي، والتي كانت تعبر عن ذلك الصراع الاجتماعي حيث استخدمت تهمة السرقة كأحد الأسلحة الأساسية للقوى التقليدية لتشويه مؤيدي التجريبي، بحيث أصبحت تلك التهمة تروج إلى أن التجريبي أثر بالسلب على المسرح المصري والعربي نتيجة انجراف المسرحيين الشباب إلى تقليد العروض الغربية ونقلها وسرقة التقنيات الفني .أما ثاني النماذج التي تناولها فكانت نوعية عروض الرقص المسرحي الحديث والتي كانت بدورها موضوع صراع واتهامات صريحة بالاغتراب والمفارقة الثقافة العربية . انتقل مسعد إلى تناول الأزمات الأساسية التي تمثل صعوبة أمام عملية اكتشاف السرقات الفنية بداية بتعريف الميزانسيه بوصفه نظاما لبناء المعنى يدخل مع السينوغرافيا ـ التي تبدو أكثر عمومية منه ـ في شبكة من العلاقات المعقدة التي تقوم ببناء العرض المسرحي. في ضوء ذلك رأى مسعد إن كل اتهام بالانتحال أو الإقتباس أو السرقة يجب أن يتوقف بالضرورة أمام السينوغرافيا أو الميزانسيه، حيث إن الكتل الثابتة (قطع الديكور بالتعبير التقليدي) هي الأسهل والأبسط بالنسبة لمن يقوم بعملية مقارنة أو تدقيق في العلاقة بين عرضين في محاولة اكتشاف سرقة أو تأثر أو لإكتشاف علاقات التناص، فالكتلة الثابتة هي بطبيعتها وحدة قياس ثابتة سواء أكانت ثابتة وغير متحركة أو تمتلك آلية للحركة الأفقية أو الرأسية. وحفلت المداخلات بحالة من الرفض لتقييد المسرح وتكبيله بالمزيد من المصطلحات، على الرغم من الاعتراف من جانب البعض بوجود حالة من السطو على الأفكار والرؤى المسرحية. وهو الأمر الذي يتطلب حركة نقدية يقظة ومواكبة للعروض. محمد الحمامصي
مشاركة :