لعل من المفارقات أن تأتي ضربة المعول الأولى في هدم قلعة السرية المصرفية من البلد ذاته. هذا هو الواقع، فقد كانت سويسرا نفسها، وتحديداً مصرفها الأول "يو بي إس"، "أصل البلاء" أو "أصل الخير" (ليس مهماً)، في دفع السلطات الأمريكية نحو تشريع قانون لم يشهد له التاريخ مثيلاً تخضِع بموجبه كل القوانين المالية والمصرفية في العالم تحت عباءته، ولا توجد عبارة أخرى أكثر لطفاً من هذه في وصف القانون الأمريكي، الشهير بمسمى "فاتكا". وجاء تشريع هذا القانون أصلاً عام 2010، على الرغم من تردد الوسط المالي الأمريكي في قبوله، رداً على فضيحة مصرف "يو بي إس" في تشجيعه أثرياء أمريكيين على إخفاء أموالهم بعيداً عن أعين الضرائب الأمريكية، وهي فضيحة تم الكشف عنها عام 2008. ومع إصدار "قانون امتثال الحسابات الأجنبية للضرائب" ستتمكن واشنطن من أن تطلب من جميع المؤسسات المالية الأجنبية "المصارف، والمؤسسات المالية، وشركات التأمين على الحياة، وصناديق الاستثمار وغيرها"، بما في ذلك تلك التي لا تعمل في الولايات المتحدة، تزويدها بأسماء وبيانات عملائها الخاضعين للضرائب في أكبر اقتصاد عالمي، سواء كانوا مواطنين أمريكيين أو أجانب يقيمون في الولايات المتحدة، أو مغتربين أمريكيين، وكذلك الأجانب الذين يقيمون في بلدانهم أو خارج بلدانهم ممن لديهم أصول مهمة في الولايات المتحدة. وبموجب القانون الأمريكي، الذي يُعرف اختصاراً بمسمى "الامتثال" استناداً إلى مضمونه، أو "فاتكا "، استناداً للحروف الأولى من كلماته الخمس باللغة الإنجليزية، فإن جميع المصارف والمؤسسات المالية الأجنبية مدعوةً للتسجيل لدى هيئة الضرائب الأمريكية، على أن تبرم اتفاقية مع الهيئة تتعهد بموجبها أن تُعرِّف السلطات الضريبية الأمريكية بزبائنها الخاضعين للضريبة الأمريكية، وذلك بالإبلاغ عن أسمائهم وبياناتهم المصرفية. في 14 شباط (فبراير) 2013، وقعت سويسرا والولايات المتحدة بالأحرف الأولى على اتفاق "فاتكا" الذي وصفه رئيس رابطة المصرفيين السويسريين في حينه بأنه يُعادل تلقي إنسان ضربة بمضرب "بيسبول" على رأسه. وفي أيلول (سبتمبر) 2013، وافق البرلمان السويسري، بغرفتيه الشيوخ والنواب، على القانون، ثم أعاق البرلمان مطالب شعبية سويسرية بطرح الموافقة على القانون للتصويت الشعبي عبر مبادرة شعبية. وتم استبعاد السلطات السويسرية، والمؤسسات الرسمية، والمصرف الوطني السويسري "المصرف المركزي" ومؤسسات التأمين الاجتماعي، وصناديق المعاشات التقاعدية، والتأمين ضد الأضرار أو الحوادث، والمنظمات الدولية من نطاق الاتفاق. كما استبعدت أيضاً مؤسسات الاستثمار الجماعي، والمؤسسات المالية التي لديها زبائن محليون أساساً فقط إذا كان السويسريون والأوربيون يمثلون 98 في المائة من العملاء. بلا شك، أن قانون "فاتكا" يسدد طعنة قوية في قلب السرية المصرفية، لكن لا يبدو أن بلد السرية المصرفية سيتخلى بسهولة عن خصوصية المعطيات المصرفية لزبائنه، إنها إشكالية ما زالت حلولها غير واضحة المعالم حتى الآن. من قلب القلعة ذاتها، يجيب، كزافييه أوبرسون، المحامي، وأستاذ القانون الضريبي الدولي في جامعة جنيف على ستة أسئلة محددة لـ "الاقتصادية"، أولها ما العواقب المباشرة على المصارف السويسرية إذا كان لديها عملاء أمريكيون لا تعلن عنهم؟ يقول، أوبرسون إن المصارف السويسرية، فضلا عن جميع المؤسسات المالية الدولية التي يشملها القانون، ستكون ملزمة للتسجيل لدى مصلحة الضرائب في الولايات المتحدة "دائرة الإيرادات الداخلية"، ثم يجب عليها أن تلتزم بالإعلان عن جميع عملائها الخاضعين للضريبة في الولايات المتحدة، وإعلان المبلغ الذي يملكه كل عميل في حسابه أو حساباته، وفي حالة الرفض، ستخضع هذه المؤسسات لضريبة بنسبة 30 في المائة على دخلها، وحرمانها من ممارسة نشاطها المصرفي داخل الولايات المتحدة. وأضاف أوبرسون أن سعة القانون تصل إلى حد أن بإمكان مصلحة الضرائب الأمريكية، في كافة الأحوال، أن تطلب المعلومات المصرفية عن أي شخص في العالم، يقيم في بلده أو في أي مكان آخر، ترى أنه خاضع للضرائب الأمريكية. ويخلص، أوبرسون إلى القول إنه سيكون من المستحيل امتلاك عملاء من الولايات المتحدة، دون أن يتم الإعلان عنهم، وأي كلام آخر مُخالف لهذا هو غير واقعي، حسب تعبيره. أمام هذا الوضع، هل سيواصل الأجانب إيداع أموالهم في المصارف السويسرية؟ "نعم بالطبع" حسب، الخبير القانوني، لكن ليس لإخفاء الأموال عن جابي الضرائب بكل تأكيد. وأشار أوبرسون إلى أن سويسرا تعهدت بوضوح الالتزام بسياسة فايسجيلد ستراتيجي وهي كلمة ألمانية تعني "استراتيجية التفادي" أو "ستراتيجية تجنب المواجهة"، التي تعني ببساطة قبول الأموال النظيفة، فحسب، ولا أعتقد أنه سيكون هناك تسرب لعملاء المصارف السويسرية إلى غيرها ثم أريد أن أسألك إذا كان عملاء يرغبون في مغادرة سويسرا، أين سيذهبون؟ فاتفاق فاتكا ينطبق على العالم بأسره.وأوضح أن معظم العملاء الأمريكيين في المصارف السويسرية، إن لم يكن كلهم، إما أنهم أعلنوا عن أموالهم لمصلحة الضرائب، وإما أنهم كانوا قد أعلنوا عن أموالهم فعلاً من قبل، وعليه فموجة تأثير قانون "فاتكا" قد مضت، وهي في طريقها للاختفاء. وفي إشارة من "الاقتصادية" إلى أن مصرف "لييختينستينيشي لانديسبانك"، الذي يعمل في ليخنشتاين (إمارة صغيرة محصورة بين سويسرا والنمسا، تستخدم الفرنك السويسري عملة رسمية لها) قد تخلى عن جل أنشطته في سويسرا. وعن إمكانية حصول حالات مماثلة مع سريان مفعول اتفاق "فاتكا"؟ قال، أوبرسون، إننى لا أرى ذلك، فالمال غير المعلن أصبح الآن جزءًا من الماضي، وسيواصل العملاء جلب أموالهم إلى سويسرا. المهارات المصرفية السويسرية، وأمن البلد، وسيادة القانون، مع صفر من الإجراءات المكتبية "البيروقراطية" هي العناصر الحاسمة التي تضمن صورة ممتازة للمركز المالي السويسري. وبحسب أوبرسون، فإن المؤسسات المصرفية ستضع برامج للدراية الشاملة لتطبيق هذا الاتفاق، وستتكبد تلك المؤسسات بالتأكيد تشغيل عدد إضافي من الموظفين لتوضيح ورصد سير الإجراءات المتعلقة بتطبيق قانون "فاتكا"، وهذا في حد ذاته أكثر ضرراً على المصارف من احتمال تسرب العملاء إلى خارج سويسرا. هل خرجت سويسرا من نزاعها الضريبي مع الولايات المتحدة؟ وهل ستوقف الولايات المتحدة ضغوطها على المصارف السويسرية؟ يجيب، أوبرسون، "لا"، فسويسرا بالنسبة للولايات المتحدة لا تزال النموذج الرئيسي والمهم لتنفيذ الاتفاق، ما ستقوم به، ستحذو حذوه المصارف الدولية الأخرى، لذلك هناك تركيز على سويسرا. وأضاف أن بعض النقاط في المعاهدة لا تزال غامضة، علاوة على ذلك أنه لم يتم حتى الآن حسم قضية المصارف السويسرية التي تواجه إجراءات قضائية، أو مثيلاً لذلك، في الولايات المتحدة، وهي لا تعرف حتى الآن حجم العقوبات التي ستدفعها. وحول قدرة بعض المصارف على تحمل وزن الغرامات؟ وهل سيلجأ الموظفون إلى الاستئناف عندما يعلمون أن أسماءهم قد تم الكشف عنها في الولايات المتحدة؟ قال أوبرسون إنه إذا خلقت سويسرا تعقيدات، فالحكومة الأمريكية لديها القدرة على تعليق اتفاق آخر وقعته أخيرا مع الحكومة السويسرية بمسمى "الخطة باء لقانون ليكس الأمريكي" الذي يضع حدا نهائياً للنزاع مع المصارف السويسرية التي ساعدت دافعي الضرائب الأميريكيين للتهرب من دفع الضرائب. من دون الالتزام بقانون "فاتكا"، هل تخشى سويسرا أن تشهد حالة، أو حالات مماثلة لـ "فيجيلين"؟ (فيجيلين، هو مصرف سويسري في مقاطعة سان جال تم ملاحقته قضائياً في الولايات المتحدة بتهمة مساعدة أثرياء أمريكيين على التهرب من الضرائب، وكان ينبغي عليه أن يدفع 53.8 مليون فرنك (59.7 مليون دولار) لمصلحة الضرائب الأمريكية، وقد أعلن إفلاسه بعد أيام قليلة من الملاحقة القضائية). وتختصر "الاقتصادية" سؤالها بالقول، كيف سيكون المركز المالي السويسري من دون "فاتكا"؟ ويجيب القانوني السويسري أنه في هذه الحالة ستواجه سويسرا مخاطر تلقي "الاتهام" بأنها مأوى للأموال الفاسدة، وهذه تهمة خطيرة لها عواقبها، وسيستمر الضغط على سويسرا، وفي هذه الحالة يمكننا أن نتصور فيجيلين ثانية، وثالثة، وهذه "التهمة" في حد ذاتها في واشنطن تساوي عمليا موت أحد المصارف. وعما إذا كان هذا الاتفاق سيفتح الباب أمام مطالب بلدان أخرى مثل فرنسا وألمانيا؟ أوضح أوبرسون، أنه لا يعتقد ذلك، لأن الوضع يختلف كثيرا بين التشريعات الأوروبية والأمريكية، فالمواطن الأمريكي ملزم بموجب القانون أن يدفع الضرائب أينما عملَ وأينما سكنَ، والولايات المتحدة هي البلد الوحيد في العالم يطبق هذا النظام، بينما في أوروبا توجد آليات للضرائب على أصل الأموال معمول بها فعلا منذ عام 2005. وحسب قانون "فاتكا" ستقوم المصارف بنقل البيانات إلى سلطات الضرائب الأمريكية مباشرة كل سنة. إذا ما رأت مؤسسة الضرائب الأمريكية أنَّ هناك انتهاكات خطيرة تتعلق بنقل المعلومات ودقتها، فستقوم الحكومة الأمريكية بإخطار السلطات السويسرية بهذه الانتهاكات. وفي حالة عدم تصحيح الأخطاء أو الانتهاكات، ستتمكن واشنطن من اتخاذ تدابير مضادة ضد المصرف، دون المرور عبر الحكومة السويسرية.
مشاركة :