عندما أرسل لي الصديق أنور الياسين رسالة صباح الأربعاء 21 مارس يخبرني فيها بوفاة الصديق والأخ الكبير توفيق عبدالكريم النصار، لم أفكر بموت أبي خالد، وإنما فكرت بحياته. فحينما زرته بالمستشفى، تألمت كثيرا ولم أحتمل البقاء في غرفته أكثر من دقائق قليلة. لا أعتقد أنه كان واعيا عن من زاره في الدقائق التي كنت معه. بعدها طلبت من ابنه خالد أن يتصل بي في أي وقت حتى في منتصف الليل إن كان أبو خالد واعيا لكي أتمكن من زيارته. ولم يتصل بي أبدا، إنما كان النبأ بوفاته من الصديق أنور. ابو خالد شخصية وطنية خدمت الكويت بهدوء لأكثر من أربعة عقود. حيث تقاعد من عمله عام 2008 مديرا لإدارة الترجمة بدرجة وكيل وزارة في الديوان الأميري ومترجما شخصيا للمغفور لهم الشيوخ عبدالله السالم وصباح السالم وجابر الأحمد. وكانت فترة خدمته بالقرب من المغفور له الشيخ جابر الأحمد حوالي ثلاثة عقود. فقد كان ابو خالد شاهدا على تاريخ الكويت وتاريخ العالم في فترات عصيبة. لا أذكر بالضبط أي سنة التقيت أول مرة بأبي خالد، لكني أقدر أنه كان في منتصف الثمانينات في شهر رمضان في ديوان المرحوم عبدالوهاب العدواني – أبو يوسف. كان هذا عندما انضممت إلى أخوي عبدالكريم وسهيل بالالتزام يوميا بالدوام في ديوان أبو يوسف، واستمر ذلك في كل رمضان الى وفاة المرحوم ابو يوسف. وكان ملتزما بالدوام معنا يوميا ابن أختي المرحوم الدكتور عبدالله الرفاعي والمرحوم محمد الميضان – أبو سليمان، وكان أبو خالد من أكثر الملتزمين بهذا الدوام الرمضاني. ومن خلال هذه الجلسات الرمضانية، اكتشفت مدى اطلاع أبي خالد وثقافته. فأبو خالد وإن كان قد أكمل دراسته بالجيوفيزياء من جامعة جلاسجو في إسكتلندا، وعمل في هذا المجال لسنوات قليلة في ايسلندا وفي شركة نفط الكويت، إلا أنه كان مثقفا موسوعيا. وعلى معرفة عميقة بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي. هذا مما زاد من تقاربنا. كما أن أبا خالد كان على اطلاع ومعرفة بالأدب العربي والعالمي. وكان من السهولة أن تنتقل معه بالحديث من شكسبير والشاعر بيتس والروائي جيمس جويس فأوسكار وايلد، إلى المتنبي والمعري وإلى الشعر النبطي. ومن خلال أبي خالد تعرفت اكثر على شعر الشاعر النبطي حميدان الشويعر الذي ولد في مدينة القصب شمال غرب الرياض في القرن الثامن عشر الميلادي. كما كان يحفظ شعرا لابن لعبون ولفهد بورسلي. أما عندما نخوض في التاريخ الإسلامي، فكانت رؤيته وتفسيره لهذا التاريخ أشبه برؤية الفلاسفة من رؤية رجال الدين. هذا وتوطدت علاقتي به بعد أن أصبح لي شاليها في منتزه الضباعية بعد التحرير. هذا مع أن شاليهي الـ 186 يبعد كثيرا عن شاليه الـ 25، إلا أننا كنا نلتقي أحيانا. وتدريجيا زادت اللقاءات. فعرفني أبو خالد على جاره صبيح سامي العيسى الذي اصبح من أعز أصدقائي ومن أعز أصدقاء أصدقائي. وكما هو معروف، فإن المتشابهين في الرؤى والقيم يلتقون وتتسع دوائرهم. فامتدت لتشمل ما يمكن ان يطلق عليهم «مجموعة جلاسجو»، وهم الكويتيون الذين درسوا في جلاسجو، الذين يتميزون بحماس لهذه المدينة وفخر بها. وأعرف مثلا أن أبا خالد لا يود أن يسمع من يمتدح مدينة إدنبرا – العاصمة التاريخية لاسكتلندا. وأذكر أنه مرة وبعد عودتي من اسكتلندا مع عائلتي زرت خلالها جلاسجو وادنبرا، وامتدحت ادنبرا، فبدأ أبو خالد يسرد لي مزايا جلاسجو وتاريخها. ويبدو أن ابا خالد كان محقا، فمنذ ايام قليلة اخبرتني سيدة اسكتلندية من سينت أندروز انه إن كانت مدينة أدنبرا تفتخر بأنها احتضنت الفيلسوف هيوم فان رجل الشارع في جلاسجو فيلسوفا! ولعل من أجمل ما استمعت إليه من أبي خالد، كان عن رحلته إلى جلاسجو للدراسة عام 1953. فقد أخبرني أبو خالد أنه أخذ طائرة الخطوط الجوية الملكية الهولندية KLM من البصرة، وصادف أن كان معه على نفس الطائرة المرحوم مراد بهبهاني والمرحوم الشيخ خالد أحمد الجابر اللذان كانا متوجهين إلى لندن لتهنئة الملكة اليزابيث بتوليها العرش عام 1953. فكانت رحلة أبي خالد بالطائرة من البصرة إلى بغداد فبيروت ثم أثينا وتوقفت في مطار امستردام، حيث نام فيها ليلتين في فندق بورت فان كليفي الذي تم إنشاؤه عام 1870. لذا كانت امستردام أول مدينة أوروبية شاهدها أبو خالد، وهي أكثر مدينة أوروبية يتردد عليها كاتب هذه السطور. فقد تطلب عملي أن أسافر بانتظام مرة واحدة بالسنة على الأقل منذ عام 1983. واستطعت أن أكون فيها صداقات مع رجال أعمال وكتاب وفنانين. ولإعجابنا بامستردام، اقترحت على أبي خالد أن نلتقي في امستردام. وفعلا فقد تمكنا من ذلك منذ عشر سنوات. ورتبت الرحلة لمدة أربعة أيام لكي يستعيد أبو خالد ذاكرته عن هذه المدينة الجميلة. فكانت إقامتنا في فندق بوليتزر – المملوك من عائلة أميركية غنية هولندية الأصل – وهي العائلة التي تبرعت بجائزة أدبية سنوية من أهم الجوائز التي تقدم لأفضل كتاب في مجالات الآداب والعلوم السياسية. وفي هذه الرحلة عرفت أبا خالد على صديقتي الكاتبة البلجيكية ليفا يورس، التي عرفتنا على صديق لها سوداني الأب وايرلندي الأم، ويعتبر من الأدباء المهمين في العالم العربي. هذا وبالطبع زرنا الفندق الذي سكن فيه أبو خالد عام 1953، وتناولنا الغداء فيه. وتمشينا سويا في أزقة امستردام التي بني أغلبها في القرن السابع عشر. وتمكنت من إقناع أبي خالد من مرافقتي لحضور فيلم «ماما… مايا…» الذي تمثل فيه ميريل ستريب. ويبدو أني لم أنجح في جعل أبي خالد مشاركتي المتعة من موسيقى الفيلم. فالتفت إلي في منتصف الفيلم قائلا: «ممكن يقصرون صوت الموسيقى؟» فأجبته: «أبو خالد … هذا ما أقدر عليه». وتحدثت مع أبي خالد عن علاقتي بامستردام وتاريخها ومتاحفها التي دخلت إليها أكثر من مرة، أحيانا لوحدي ومرات أخرى مع زوجتي، ثم مع زوجتي وأطفالي. وحدثته عن الفيلسوف سبينوزا الذي ولد في امستردام في عام 1632، وتوفي شابا في عام 1677. وأخبرته أنه لو كان سبينوزا حيا لأصبح صديقنا، فهناك عوامل مشتركة بيننا، فنحن ناقدون للتراث، وسبينوزا كان متمردا على اليهودية. وكان ينتمي إلى عائلة يهودية هاجرت من الاضطهاد الكاثوليكي في البرتغال بعد خروج العرب من أسبانيا عام 1492. وفاة الصديق والأخ توفيق النصار، تجعلني أفكر وأتأمل أكثر بالحياة، وليس بالموت. وكما قال سبينوزا: «إن أقل ما يتأمل به الإنسان الحر هو الموت. فالحكمة تقضي أن نتأمل بالحياة، وليس بالموت». الرحمة والمغفرة لك يا ابا خالد والصبر والسلوان لعائلتك الكريمة وللقريب منك وستكون دائما معنا يا أبا خالد. د. حامد الحمود Hamed.alajlan@gmail.comhamedalajlan@
مشاركة :