ماجد كيالي يكتب: نحو مراجعة نقدية للتجربة الوطنية الفلسطينية

  • 4/3/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يحتاج الفلسطينيون بعد كل التجربة النضالية، المريرة والمعقّدة والصعبة والمكلفة، التي امتدت لأكثر من نصف قرن، إلى مراجعة رؤاهم وخياراتهم وبناهم وأشكال عملهم، السياسية والكفاحية، بصراحة وجرأة وبطريقة نقدية مسؤولة، لمعرفة أين كنا؟ وأين صرنا؟ وكيف حصل ما حصل؟ فنحن مثلا لم نراجع تجربتنا في الأردن ولا في لبنان، ولا تجربتنا في الكفاح المسلح في الخارج او في الداخل، ولا تجربة الانتفاضة الأولى ولا الثانية، ولا تجربتنا في المفاوضة أو تجربتنا في بناء السلطة أو في بناء منظمة التحرير، فتجربتنا لم تكتب، وهذا خطأ كبير علما أن الحركات السياسية الحيّة الواثقة من نفسها تهتم بمراجعة تجربتها وانتقاد ذاتها لترشيد طريقها. الفرضية الأساسية هنا أنه لم يعد مقبولاً اجترار الشعارات والمقولات والبديهيات، أو التوهمات، التي تعوّدنا عليها، منذ سبعة عقود، والتي لم تنتج شيئاً يتناسب مع التضحيات والعذابات والبطولات التي قدمت. على ذلك فإنني سأحاول أن أطرح وجهة نظري بطريقة مباشرة دون مواربة، أي أنني سأطرح الأسئلة المسكوت عنها، أو الأسئلة التي ربما لم نعتد على طرحها، أو التي نحجم عن طرحها لسبب أو لأخر. من البداية أود أن ألفت الانتباه إلى مسألتين:  أولاهما، إن هذه المراجعة المتأخّرة لأكثر من نصف قرن، في هذا الملتقى، والتي تنمّ عن شجاعة سياسية وأخلاقية، بحضور معظم الطبقة السياسية المسؤولة، تأتي على ضوء التجربة، أي بعد أن تم اختبار كل الخيارات والسياسات والكيانات. ومثلاً فعندما نتحدث عن أفول ظاهرة الكفاح المسلح، فنحن نتحدث عن ظاهرة مجربة، والأهم عن واقع قائم، وإن كان يصعب على البعض التحلي بالجرأة للاعتراف به، وتاليا التفكير بطرق كفاحية أخرى. المسألة الثانية، أن البعض سيقول وماذا بعد نقد التجربة وتشخيص الواقع؟ أو ما هو بديلكم، وأود أن أجيب سلفاً أن هذا النقد وجد منذ بداية التجربة الوطنية، لكن المشكلة كانت تكمن في تغييب العقلية النقدية، والفجوة بين أصحاب الرأي وأصحاب القرار، حتى في الفصيل الواحد، وفي غياب حراكات سياسية حقيقية. ثم إننا ونحن نقرر بأن خياراً ما لم يثبت نجاعته، وأنه أضر بكفاحنا وبشعبنا، فنحن نتحدث عن واقع، حتى لو لم يكن لدينا بديلا لهذا الخيار، إذ القول بأن هذا الطريق سيفضي بنا إلى هاوية وعدم تقديم بديل عنه لا يعني السير نحو الهاوية، أما عن تقديم الإجابات أو البدائل، فهو من مسؤولية مراكز صنع القرار، أي مراكز الأبحاث والدراسات، وللأسف فهذا أكثر شيء نفتقد له في تجربتنا. ولعل هذه مناسبة للدعوة إلى انشاء مؤسسة او مجموعة تفكير، من أصحاب الرأي، والمختصين وأصحاب الخبرات، مهمتها تقديم الخيارات للقيادة، في كل المجالات، وهي مناسبة للدعوة أيضا لإعادة بناء مركز الأبحاث، وتفعيل دوره في هذا المجال، أيها السادة نحن نستثمر كثيرا في الأمن، لكن ذلك قد يعزز الأمن والاستقرار على المستوى الآني، أما بالنسبة للتنمية والأمن والاستقرار المستدام فهذا يحتاج للاستثمار في التعليم والثقافة والإعلام ومراكز الأبحاث والدراسات. أين أخطأنا، أو أين كنا وأين صرنا، ولماذا حصل ما حصل وكيف؟ بديهي أننا أخطأنا عندما لم نراجع تجربتنا أمس قبل اليوم…أخطأنا عندما اعتبرت قياداتنا أن كل شيء على ما يرام، وأنها على صواب دائماً.لكن إذا كان كل ما اشتغلناه صحيحا، وصائباً، إذا لماذا وصلنا إلى هنا؟ هذا ما تأكيدنا أنه لا يمكن وضع كل شيء على العوامل الخارجية والموضوعية فثمة مسؤولية تقع على عاتق العامل الذاتي، ولاسيما على الطبقة السياسية التي أدارت العمل الوطني الفلسطيني طوال المرحلة السابقة. على ذلك، ومن مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية (1948ـ1993)، يمكن الإشارة إلى الأخطاء أو المشكلات الآتية: 1 ـ طغيان العمل المسلح على مختلف أشكال العمل الوطني، على الكيانات والخطابات والعلاقات الداخلية، فأولاً، هذا كان على حساب بناء الكيانات السياسية، والتنمية المجتمعية، مثلاً، في عودة إلى الخلف انظروا إلى تأثير هذا الواقع على مجتمع الفلسطينيين في لبنان، كيف كان قبل وجود الظاهرة المسلحة وكيف صار اليوم أي بعدها؟ أي أن الحركة الوطنية الفلسطينية، بحكم طابعها كحركة عسكرية، لم تهتم ببناء مجتمعات الفلسطينيين، بقدر ما اهتمت ببناء ميلشيات وأجهزة أمنية وقوات عسكرية (وفقا للتجربة المتشكلة في لبنان حيث أثرت التجربة العسكرية في تهميش مجتمع فلسطينيي لبنان وسيادة البني الفصائلية العسكرية). ومثلاً فقد خرجت حركتنا الوطنية من لبنان (1982)، وتركت مجتمع الفلسطينيين فيه من دون كيانات أو مؤسسات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وتخلّت عنه (عملياً) وهو في غاية الاستنزاف والتمزّق، مع أجيال ضاع عليها التعليم. وباختصار فإن أكثر شيء خسرناه في التجربة الماضية هو الموارد البشرية، وعدم القدرة على إيجاد نوع من التنظيم لمجتمعات الفلسطينيين في أماكن اللجوء. وقد حصل مثل ذلك، أيضاً، في تجربة الانتفاضة الثانية في الأرض المحتلة، وفي تجربتنا في قطاع غزة.  ثانياً، لقد تم الاعتقاد بأن الكفاح المسلح الفلسطيني سيحرر فلسطين، أي أن الأمر كان يتعلق بالعواطف والرغبات، من دون دراسة الواقع السياسي المحيط، أو المعطيات المتعلقة بنا وبإسرائيل، وحتى من دون دراسة لموازين القوى، ومن دون إدراك للواقع العربي، والمشكلة أننا بقينا على هذا الخيار (حتى في الانتفاضة الثانية 2000ـ 2004). ثالثا، لم يكن لدينا استراتيجية عسكرية أو كفاحية، وانما نوع من عمل مزاجي، وتجريبي وعفوي، مع الاحترام والتقدير للبطولات والتضحيات، وهكذا فقد انتقلنا من اعتبار الكفاح المسلح وسيلة لاستقطاب شعبنا واستعادة قضيتنا، وتحريك الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفقا لمبدأ “التوريط الواعي”، إلى اعتباره شكلا لتحرير فلسطين، او الوسيلة الأساسية لتحرير فلسطين، مع تبني شعارات مثل حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد وحرب العصابات الخ، وكلها لم تثبت في الواقع لأسباب ذاتية وموضوعية. رابعاً، لقد حول الكفاح المسلح، أو عسكرة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة، وهذا ما حصل في الأردن، ثم في لبنان، بحيث دخلنا في مواجهات غير محسوبة، استنزفت حركتنا الوطنية وأضرت بها وبمجتمعات الفلسطينيين. في غضون كل ذلك سهونا عن مسألتين، أولاهما:أن إدراكاتنا للعملية الوطنية، في ظروفنا الخاصة، لم تتأسّس على ركيزتين، الأولى، مواجهة إسرائيل وسياساتها الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية. والثانية بناء المجتمع الفلسطيني، وتنمية موارد الفلسطينيين وتعزيز كياناتهم وترسيخ العوامل التي تسهم في صمودهم في أرضهم، مع ملاحظة أن لا تضر العملية الأولى بالثانية، وأن لا تودي العملية الثانية إلى خلق واقع من الاحتلال المريح والمربح لإسرائيل. وثانيتهما، أننا لم نول الوسائل الشعبية في الصراع ضد إسرائيل، على نمط الانتفاضة الأولى (وليس الثانية)، الاهتمام اللازم، بالاعتماد على إمكانيات شعبنا الخاصة، ووفقا لقدراته، وتجربته وخبراته، لأن هذا الشكل اثبت جدواه في تلك الانتفاضة، ولأنه يفوّت الفرصة على إسرائيل استدراج شعبنا لأية مواجهات تستخدم فيها قوتها العسكرية لاستنزاف المجتمع الفلسطيني وتقويض قدراته واضعافه، بالنظر للتجارب السابقة. 2 ـ التراجع عن خيار الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية في فلسطين لصالح خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، منذ طرح البرنامج المرحلي في الدورة 11 للمجلس الوطني (1974)، وكان الأجدى الإبقاء على ذلك الخيار، الذي يفترض تقويض الطابع الاستعماري العنصرية الأيديولوجي لإسرائيل، والاجابة على مختلف الأسئلة التي طرحها قيام إسرائيل، سواء بالنسبة لنا كفلسطينيين أو بالنسبة لليهود الإسرائيليين، بحيث لا نحصر أنفسنا بخيار واحد، وحيد، وبحيث يكون لنا خيارات موازية، لا يكون أحدها بديلا عن الأخر. 3 ـ اعتبارنا أن قضيتنا هي قضية العرب المركزية في حين أنها كانت موضع استغلال من قبل الأنظمة العربية، إن لتعزيز شرعيتها في مواجهة شعوبها، أو لمصادرة حريات وحقوق مواطنيها، أو لابتزاز الأنظمة لبعضها، والحقيقة فقد تجاوزنا في هذا الشعار طبيعة الأنظمة وعلاقاتها بمجتمعاتها، واعتماديتها السياسية والأمنية والاقتصادية على الولايات المتحدة الأمريكية حليفة إسرائيل. 4 ـ عدم الاشتغال على خلق معادلات وإطارات سياسية تشمل الفلسطينيين في 48، لأهمية ذلك في تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة كفاحه ضد المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري الإسرائيلي. 5 ـ لم تشتغل حركتنا الوطنية بشكل مناسب على مخاطبة المجتمع الإسرائيلي، واستثمار التناقضات فيه، وإيجاد مشتركات بين اليهود الإسرائيليين المعادين للاستعمار والعنصرية. 6 ـ هيمنة حركة “فتح” على المجال العام الفلسطيني، من خلال سيطرتها على المنظمة، ومؤسساتها، وعلى المنظمات الشعبية، الأمر الذي أضعف دور تلك المنظمات، وجعلها مجرد منظمات بيروقراطية، وبالتأكيد فإن ذلك أضعف المكانة القيادية لحركة فتح، التي باتت أقرب إلى حركة سلطوية، منها إلى حركة نضالية. 7 ـ ممانعة حركة فتح تشكيل مركز قيادي للفلسطينيين في الضفة والقطاع في الانتفاضة الأولى، إذ أن ذلك كان من شأنه الإبقاء على مكانة منظمة التحرير كإطار جامع للفلسطينيين، وترك أمر المفاوضات لفلسطينيي 67 الذين كانوا يؤكدون تابعيتهم للمنظمة، وبالتالي كان يمكن تجنب ما حصل في أوسلو وبعدها. ولعله في ذلك كان يمكن تجاوز احدى أهم نقاط الضعف في الوضع الفلسطيني، المتمثلة في مركزيته الشديدة، رغم تشتّت مجتمعات الفلسطينيين، هذه المركزية قد تكون نقطة قوة للوهلة الأولى، او في مرحلة ما، لكنها نقطة ضعف كبيرة، أيضاً، لأنها تحرم المراكز الفلسطينية القدرة على الابداع والتطور والمرونة وبناء مراكز قوة متعددة، ناهيك أن ذلك يجعل القيادة الفلسطينية مكشوفة إزاء إسرائيل، ومن معها، الأمر الذي يسهّل عليها الضغط على الفلسطينيين وبالتالي على قيادتهم.  8 ـ غلبة شعارات وانشاءات عاطفية ورغبوية على معظم الفكر السياسي الفلسطيني، في تلك المرحلة، رغم عدالتها ومقاربتها للحقيقة، إلا أنها لم توازن بين الواقع والطموح، والإمكانيات والرغبات، وبين العاملين الداخلي والخارجي، وبين الراهن والمستقبل.  9ـ اختزال قضية فلسطين بالأرض المحتلة (1967)، واختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الضفة وغزة، واختزال الحقوق الوطنية بإقامة كيان أو دولة مستقلة؛ أي أن الفكرة هنا تحمل شبهة تفكيك مفهوم الشعب الفلسطيني، وطمس الرواية الفلسطينية الأساسية المتعلقة بالنكبة والمقاربة مع الرواية الإسرائيلية المتعلقة ببدء الصراع في العام 1967، مع الأخذ بعين الاعتبار أن إسرائيل تصارعنا أيضاً على ماتعتبره حقا لها في الضفة والقدس الشرقية. والمغزى، فإن المطلوب خياراً وطنياً فلسطينياً، أو رؤية سياسية، تأخذ في اعتبارها الإجابة على مجمل التساؤلات التي يطرحها الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم، والتي من شأنها، أيضاً، تنمية المشاعر والروابط المشتركة بينهم كشعب، والمطابقة بين قضية فلسطين وجغرافية فلسطين وشعب فلسطين، مع استيعاب المسائل الناشئة عن قيام إسرائيل.   10 ـ حصر الصراع مع إسرائيل بالأرض، فقط، من دون شمول ذلك الصراع على الحقوق والقيم المتعلقة بالحرية والمواطنة والعدالة التي تعني إضفاء معاني، أو مضامين، ملموسة أكثر على فكرة التحرير، فهذه هي اللغة التي يفهمها العالم اليوم أكثر، من غيرها، وهي التي تجعل للفلسطيني مصلحة مباشرة بالكفاح. ويفترض الانتباه إلى أن هذه الفكرة تعني، أو تفترض، تقويض الصهيونية التي تقوم على دولة يهودية، أو دولة عنصرية واستعمارية، أو تفضي إلى كل ذلك. فإذا كان الفوز، أو الانتصار على المشروع الصهيوني، المتمثل في إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والدينية، يتطلب توفر معطيات عربية ودولية لصالح شعبنا، فإننا في ذلك نكون جنّبنا شعبنا الدخول في معارك فوق طاقته، وفوّتنا على إسرائيل جرّنا إلى معارك تستنزفه، وتدمر طاقاته، كما حصل في تجربتنا الوطنية. كما إننا في هذا الأمر ربما نفتح المجال واسعاً أمام حركتنا الوطنية للاستثمار في التناقضات الإسرائيلية، ناهيك عن تفويت الفكرة الصهيونية التي تتأسس على معادلة الحرب الوجودية، عرب ضد يهود، والتي شكلت محور الهوية الإسرائيلية، أو محور الاجماع الإسرائيلي. في ختام هذه المراجعة الأولية، والموجزة، أود التنويه الى أن ذلك كله لا يحجب الإنجازات التي حققتها التجربة الوطنية الفلسطينية، وضمنها استنهاض الشعب الفلسطيني، وتعزيز هويته، وبناء كياناته السياسية، ووضع قضيته على جدول الأعمال العربي والدولي، لكن ما يفترض التنويه إليه، أيضاً، أن هذه الإنجازات تحققت في فترة مبكرة، أي مع الاعتراف العربي بمنظمة التحرير كمثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، واعتراف الأمم المتحدة بذلك، مع إلقاء الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من على منبر الأمم المتحدة، أي أن كل ما حصل بعده كان فائضاً، بل وأدخل الإنجازات المتحققة في إطار التآكل، إلى حين اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى (1987)، حيث دخلت بعدها قضيتنا وحركتنا الوطنية في طور جديد، وهذا شأن حديث آخر.

مشاركة :