معلوم أن كل الكيانات السياسية، وإن بتفاوت، تعاني من مشكلات التآكل والتقادم، والانحسار، وهذا ينطبق على المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية. بيد أن ما يفاقم من كل ذلك انحسار شعبية تلك الكيانات أو تراجع مكانتها التمثيلية، على خلفية تراجع أدوارها النضالية، في الصراع ضد إسرائيل، لاسيما مع اعتماد الخيار التفاوضي، والتحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة، تحت الاحتلال، وغياب الإجماعات الوطنية نتيجة الخلافات السياسية، وأيضا، نتيجة لغياب الحراكات السياسية والعلاقات الديمقراطية في الساحة الفلسطينية، في ظل سيادة الاستئثار بالقرارات، والقيادة الفردية. وبكلام أكثر تحديداً فنحن إزاء استحقاق انتخاب قيادة جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتخابات لعضوية المجلس الوطني، سيما أن معظم أعضائه في السبعينيات والثمانينيات وأغلبهم جاء بالتعيين، علما أن المجلس لم يعقد سوى دورتين عاديتين منذ إقامة السلطة (27 عاما)، الأولى في العام 1996 (الدورة 21) والثانية في العام 2018 (الدورة 23)، في حين أن الدورة 22 عقدة في العام 2009 واقتصرت على ترميم عضوية اللجنة التنفيذية. أيضا، ثمة استحقاق انتخاب رئيس للسلطة، وانتخابات للمجلس التشريعي (الذي جرى حله قبل عام، ناهيك عن ضرورة إعادة بناء المنظمات الشعبية لتجديد حيويتها وفاعليتها. وباختصار نحن إزاء نظام سياسي، وكيانات سياسية، أضحت تبدو متقادمة، ومستهلكة، وتفتقد القدرة على تقديم أي إضافة جديدة، ويخشى أنها أصبحت بمثابة سد إزاء أي محاولة لتفعيل هذا النظام وتطويره، للتكيف مع المتغيرات ومواجهة التحديات الناشئة. طبعاً هذا الاستحقاق يشمل الفصائل التي لا تعقد مؤتمراتها لتجديد شرعيتها أو لمراجعة أوضاعها، أو لإعادة تقويم مسيرتها، بخاصة الفصيلين الرئيسين المسيطرين على الموارد والمجال العام والقرار، وهما “فتح” و”حماس”، كما يشمل ذلك ما يسمى فصائل “اليسار الفلسطيني”. ولعل ما يعزّز أهمية هذا الاستحقاق ضعف الحراكات الداخلية في الفصائل، وتدني قدرتهم على إنتاج كيانات تمثيلية ومؤسسية وديمقراطية، وافتقادهم القدرة على تجديد الأفكار والبني أشكال العمل، واستمراء العيش على الماضي، بدون الاستفادة من تجربة، أو من خبرة، كفاحية عمرها نصف قرن، بما لها وما عليها، علماً أننا إزاء فصائل بمثابة كيانات مغلقة، ولم تعد تتشكل كتيارات ذات بعد شعبي، كما كانت، وانها تفتقد للحراكات الداخلية وللحياة الديمقراطية، ناهيك أنها باتت تتعيش، أو تعتمد في استمرارها، على حال الاستقطاب بين الفصيلين الكبيرين أي فتح وحماس. مثلا، فإن المشكلة في “فتح”، كتيار وطني، إنها كفّت عن كونها حركة وطنية تعددية متنوعة، وأنها بعد أن كانت الحركة الأكثر شبها بشعبها، أضحت بمثابة حزب للسلطة، تحتكر الموارد والتقرير بالخيارات، وأنها نكصت عن مشروعها الوطني نحو حل لجزء من الشعب على جزء من الأرض، دون أن تحاول شقّ أفق أخر، ودون أن تحاول نفض التكلس والكسل في بدنها؛ رغم فشل خيار المفاوضة، وتعثر كيان السلطة. والمشكلة في “حماس”، أنها تشتغل كتيار ديني أكثر مما تشتغل كتيار وطني، وأنها بدلا من أن تشتغل كحركة تحرر وطني تحولت الى سلطة في غزة، تهيمن على حياة الفلسطينيين، وبشكل أحادي، وبوسائل القسر، وبدعوى تطبيق الشريعة، وأنها تتصرف في السياسة ليس بناء على موازين القوى والمعطيات العربية والدولية وإنما بروح قدرية، لا تأخذ في اعتبارها معاناة الفلسطينيين في غزة وتضحياتهم. والأهم من كل ذلك أنها لم تستطع طوال سيطرتها على غزة من تقديم نموذج للسلطة أفضل من تلك السلطة التي لـ فتح في الضفة. أما المشكلة مع فصائل اليسار فهي أنها أيدلوجية (مع أن هذه الكلمة كبيرة عليها)، وأنها أضحت بمثابة فصائل معزولة، وبيروقراطية، فضلا عن أنها مشتتة، وهي لا تشتغل لتوحيد ذاتها، مع انه لا يوجد مبرر لبقائها متوزعة على عدة فصائل، غير نظام “الكوتا”، مع ضعف أهلية قيادتها، سيما أنها تفتقد للديمقراطية وللحراكات الداخلية أيضا. والمشكلة الأهم أن هذه الفصائل لم تعد تضيف شيئاً البتّة، وقد انحسر تأثيرها في العمل الفلسطيني، وعلى الرأي العام، فضلا إن سياساتها غالبا ما تتبع “فتح” أو “حماس”، ناهيك أنها تقف مع نظام الاستبداد في سوريا، ومع إيران، مع فصلها بين مفهومي التحرير والحرية. ثمة ثلاث استنتاجات هنا، أولها، أن الكيانات الفلسطينية التي انطلقت في الستينيات وصلت الى نهاياتها، من جهة خطاباتها وبناها وأشكال عملها ووسائل كفاحها، هذا تأكد أكثر منذ التحول من حركة تحرر الى سلطة في الضفة والقطاع، فنحن إزاء جسم أخر مختلف كليا. وثانيها، إن القيادة الفلسطينية متحررة إزاء شعبها، بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، ولعدم وجود المجتمع في إطار إقليمي موحد، ولأن الطبقة السياسية الفلسطينية لا تعتمد في مكانتها ونفوذها على شعبها. وثالثها، إن مشكلة الفلسطينيين لا تتعلق بالذهاب نحو هذا الخيار أو ذاك، فقط، وإنما بحال الترهل والتآكل الذي تعاني منها بناهم التي تفتقد للروح المؤسسية والنضالية ولعلاقات الديمقراطية والتمثيل، والتي تفتقد لتقاليد المساءلة والمحاسبة. والواقع فإن وجود بني حية، وعلاقات ديمقراطية، وكادرات تمتلك الحد الأدنى من المسؤولية، من شأنه تقليل الخروج عن المسار الوطني، أو تدارك مخاطر ذلك إن حصل، أو اقله المحافظة على البيت. وفي شأن السلطة، فلا يبدو أن ثمة أفق قريب لتطور وضع الكيان الفلسطيني في الضفة والقطاع، لاسيما مع استشراء الاستيطان، وتعزز الهيمنة الإسرائيلية الأمنية والاقتصادية، وحصار قطاع غزة الذي تهيمن عليه حركة “حماس”، ومع توجه إسرائيل لضم أجزاء من الضفة، ومع وجود إدارة أمريكية لديها خطة (صفقة القرن)، أطاحت بحل الدولتين، وبرعاية الولايات المتحدة (ولو شكلا) لما يسمى عملية السلام. بالنتيجة فإن الفلسطينيين لم يوفّقوا في إقامة كيان مستقل لهم لأسباب كثيرة، ضمنها ضعف إدارتهم لأحوالهم ولمواردهم ولخياراتهم في صراعاتهم ضد إسرائيل، والخلافات بين أكبر حركتين سياسيتين عندهم (“فتح” و”حماس”)، إلى حد الاقتتال والانقسام السياسي ثم الجغرافي، وكذلك التخبّط في وضعهم، بين كونهم حركة تحرر وطني أو سلطة مستقلة أو سلطة تحت الاحتلال. بيد أن كل هذه العوامل، على أهميتها، لا تغطّي على الحقيقة الأساسية التي مفادها أن إسرائيل هي التي أعاقت قيام هكذا كيان بحكم امتلاكها القوة والموارد والسيطرة على الأرض والمجتمع والاقتصاد الفلسطينيين، وبحكم واقعها كدولة استعمارية وعنصرية. ثمة هنا مشكلتان: الأولى، مفادها أن قيام كيان فلسطيني، في الأراضي المحتلة (1967)، لم يحسّن أحوال شعب فلسطين، ولم يقرّبهم حتى من تحقيق هدفهم المتعلق بدحر الاحتلال، إذ بحسب اعترافات قادة السلطة أنفسهم، فقد تضاعف حجم الاستيطان وعدد المراكز الاستيطانية في مرحلة “أوسلو”، وبات الفلسطينيون أقل حركة في بلادهم من ذي قبل، فقطاع غزة يخضع للحصار، وأضحت الضفة، التي كانت وحدة جغرافية متواصلة، مقطّعة الأوصال، بواسطة الحواجز العسكرية والمواقع الاستيطانية والجدار الفاصل والطرق الالتفافية. وفي المحصلة فنحن إزاء مسار تتآكل فيه جغرافيا وديمغرافيا الفلسطينيين، وتستهلك فيه حركتهم الوطنية، أو تفرّغ من مضمونها، بتحويلها إلى مجرد سلطة تخضع للاحتلال أو تتعايش معه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بمصير هذا الكيان الفلسطيني العجيب، أو المفصّل بطريقة خاصة، والذي يعتمد في استمراره على الموقف الإسرائيلي، وعلى المساعدات الخارجية، وعلى القرار الدولي والإقليمي، أكثر بكثير من اعتماده على قوّة الفلسطينيين ومواردهم الذاتية. وتبعاً لهاتين المشكلتين بات السؤال الملح، منذ أكثر من عقد، يتعلق بمآل كيان الفلسطينيين، وبشكل أخص بمصير عملية التسوية، أو شكل العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. على ذلك لم يعد مستغرباً أن القضية المطروحة اليوم، في المحافل الدولية والإقليمية والإسرائيلية، مجرد منع انهيار السلطة، وليس إنهاء الاحتلال، أو إقامة الدولة المستقلة، أو إنجاح عملية التسوية، وهذا هو جوهر الخلاف الأمريكي ـ الإسرائيلي. يمكن الاستنتاج من كل ذلك أن الكيان الفلسطيني الناشئ في الأراضي المحتلة (1967) يعيش على هامش التوافقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، ووفق الحدود التي يقدرها هذان الطرفان، طالما أن الفلسطينيين غير قادرين على قلب الطاولة، أو تغيير قواعد اللعبة، أو غير راغبين في ذلك، وطالما إن المعادلات العربية والدولية القائمة مستمرة. والمشكلة أنهم في هذا الوضع ليس لديهم ما يفعلونه لتغيير واقعهم، لا القوة ولا الموارد ولا الإرادة، أما العالم العربي فهو غارق في مشكلاته، في حين أن المجتمع الدولي تعب منهم.
مشاركة :