الحياة خارج الزمن.. تبرير «واجب الذاكرة»

  • 4/4/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

العالم اليوم تجاوز الحداثة ودخل مرحلة ما بعد الحداثة منذ عقود من الزمان، ومع ذلك ما نزال كعرب نناقض معادلة (الاصالة والمعاصرة)، ونلوك كلاما أثير منذ أكثر من قرن ونصف القرن على الأقل، كأننا عالم لا يتحرك جامدًا أو يعيش خارج سياق الزمان العالمي. ما نزال نطرح إلى اليوم أسئلة من نوع: إلى أي مدى نحن في حاجة ماسة إلى معرفة الماضي واستحضاره حقيقة وفاعلية مؤثرة في الحاضر ومتحاورة معه ومؤثرة فيه ؟ وعند استعراض الأجوبة الخاصة بهذا السؤال نتلقى تقريبا ذات الأجوبة التي قدمها في يوم من الأيام محمد عبده أو طه حسين في أحسن الأحوال: الجواب غالبا ما يكون على النحو التالي: «يكون الاستحضار بالمقدار الذي يكون لنا عنوانا على التقدم إلى الأمام، وبالمقدار الذي يجلي الحقائق ولا يلبسها، ولا يزيفها ولا يرفعها إلى ما فوق مقتضيات الفحص العلمي والنظر الموضوعي، بسبب أشكال التقديسات، وبالمقدار الذي لا يستخف بالحقائق ويستسخفها لمجرد موقف مضاد». فالأفراد كما الجماعات في حاجة إلى معرفة الماضي إذ إن هويتهم تتوقف في حد ذاتها على هذه الحقيقة ولو أنها لا تذوب فيها. فعندما يصيب مرض الزهايمر الإنسان الفاقد الذاكرة يخسر هويته ولا يعود نفسه مطلقا، كذلك فلا وجود لشعب من دون ذاكرة جمعية، ولكي تحقق ذاتها يفترض بالجماعة اختيار مجموعة من الإنجازات والاضطهادات الماضية التي تسمح لها بتحديد نفسها، لكن مع انه لا مفر من العودة إلى الماضي فلا يعني ذلك أن هذه العودة دائمًا ما تكون صالحة، فكثير من العودات والاستعدادات لا تشكل سوى حالة من الغيبوبة، فالذاكرة كاللغة، يمكن استخدامها في معركة نبيلة الأهداف كما يمكن ان تستخدم في أسوأ الأغراض وأقذرها، ولا يمكن تبرير (واجب الذاكرة) على المستوى الأخلاقي إذا كان استحضار الماضي يغذي قبل كل شيء الرغبة في الانتقام والثأر، مثلما يحدثان عندنا في اغلب الأحيان؛ لأننا لم ننجح بعد في تحقيق أي منجز تاريخي على أي صعيد في القرون الاخيرة. إلا انه لا يمكن توجيه اللوم إلى أحد لأنه يستخدم الماضي، ليس فقط لان الجميع يقومون بذلك فقط، بل وأيضا لأن من الشرعي أن يكون الماضي في خدمة الحاضر في أي عملية تفاعل حضاري بالنسبة لكافة الشعوب في العالم، فلا أحد يبدأ من الصفر تقريبا.. بيد أن استعمالات الذاكرة ليست صالحة جميعها وفي جميع الأحوال والحالات، خاصة عند الميل إلى الإفراط في الاستحضار إلى درجة يتحول هذا الاستحضار إلى عائق يحول بين الأمة والنظر إلى الواقع أو التطلع إلى المستقبل. إلا أن هنالك خطرا آخر يتهدد الأمم وهو خطر المحو والتنكر للماضي تمام التنكر. والحقيقة أن هذين الخطرين هما ما يتهددان عمل الذاكرة، يمكن اختزالهما في كلمتين: التقديس والتسخيف. فالتقديس لا يوازي تأكيد خصوصية حدث ما، إذ يتطلب هذا التأكيد ربطه بغيره من الأحداث (من اجل تحديد موقعه الفريد في التاريخ) في ميزان الخصوصية تقوم على عزل هذا الحدث وإبقائه في حيز منفرد لا يقترب منه شيء. مرة أخرى يمكن أن يكون للمقدس محله في الحياة الخاصة لكل منا، إلا أن هذا لا يصح في النقاش العام. فالتقديس هنا يمنع استخلاص درس عام من حال خاصة كما يمنع التواصل بين الماضي والحاضر. ولا يدع غير المنتسبين إلى الجماعة يستفيدون من تجربته. بيد انه عادة وكما قال آسفًا مارسيل بروست «لا نستفيد من أي درس لأننا لا نعرف كيف نصل إلى العام ونتخيل أنفسنا دائمًا أمام تجربة لا سابق لها في الماضي». ويقوم الخطر الثاني، أي الاستخفاف، على طبع الماضي فوق الحاضر والمساواة بينهما بكل بساطة وهذا ما يقود إلى تجاهلهما معًا. هذا هو جوهر الخلاف مع النزعات الدغمائية والأيديولوجية التي ليس لها الاستعداد مطلقا للاحتكام إلى الحقائق وإنما إلى (حقائقها) هي غير القابلة للفحص الموضوعي. وضع حد للدجل إن الحضارات تصنع بالفكر والإبداع والحضور المتواصل في تأسيس ملامح الجدة والتحرير في نمط الحياة الممكنة ولا يمكن لحضارة من الحضارات أن تستمر في الحضور بدون تفجير طاقات تفكيرها وتعابيرها الفلسفية والإبداعية، مهما كانت درجة تطورها الاقتصادي وحضورها السياسي. هذه الحقيقة التي تبدو في أول وهلة بديهة، قد اختلفت حاليًا في عالمنا العربي تحت عوامل عدة قد نشير إليها فيما بعد، واختفاؤها فاجعة قد تجعلنا نتدحرج إلى متاهات من الصعب الخروج منها. قد يعتقد البعض أن نهايات الإيديولوجيات الكبرى تبرر وضعنا الرديء على صعيد الفكر والفلسفة. وقد يرى آخرون أن العصر هو عصر الاقتصاد السوقي الذي يستبعد كل ما لا يمكن نابعًا ومجديًا في السوق الاقتصادي.  نعم، لا نشك في تحول الوضعية الفكرية في العالم والتي لم تعد تؤمن بالنظريات الكبرى الموحدة للمواقف والمؤطرة للسياسات. فلم يعد هناك كلي يؤطر النظريات ويحلل الإبداعات ويشكل المنهج الأمثل لفهم صيرورة التاريخ وتجليات الحياة الفردية والاجتماعية. لقد أصاب الفكر نوع من الريبة والشك المتواصل في الأصول والظواهر على حد سواء، لاسيما بعد ( حركات الحرية) والتحرر في العالم في أواخر الستينات، التي غيرت مفهوم الفرد في المجتمع وقدمت للحرية تمظهرًا جديدًا كانت له انعكاسات كبرى في المجتمع. فمهدت الطريق إلى النضال من أجل الحرية: الحرية في كل شيء ومن دون استثناء ما أعاد للفرد مكانته، بعد أن ابتلعه النسق الاجتماعي أو المكننة الاقتصادية-السياسية. إن أهم إنجازات هذا العصر المعولم اليوم هو أن الثقافة فيه تحولت إلى بديل عن الأيديولوجيات الكليانية إلا أن التحدي الأكثر أهمية اليوم والذي فرضته الوقائع الجديدة على الأرض هو كيفية تحصين الأجيال الجديدة وحماية شخصيتها من الذوبان، والجواب في كل الأحوال هو بالضرورة في نشر الثقافة ودمقرطتها وجعها حقًا مشعًا للجميع. وذلك بإيصال الثقافة الجيدة للجميع وجعل ثقافة النخبة ثقافة للجمهور في مواجهة ثقافة الغش والنصب والكذب والاستلاب.

مشاركة :