احتجاج في ليبيا ضد الفيدرالية في مدينة بنغازي شرق البلاد في 2 يوليو (تموز) 2012، بعد يوم من قيام أنصار النظام الفيدرالي في ليبيا بنهب مكاتب اللجنة الانتخابية احتجاجاً على التصويت على المستوى الوطني. طرابلس: «المجلة» * فكرة تحويل ليبيا إلى حكم فيدرالي، لا تحظى في الداخل الليبي بالزخم، حيث إنها تعتمد لدى رجال السياسة والأمن الغربيين، على نظام الحكم الذي كان في ليبيا في عهد الملك إدريس السنوسي. * أدى غياب الدولة والإحباط من دوامة العنف وتدهور الأحوال المعيشية للمواطنين، إلى حالة من النكوص والانكفاء على الذات في كثير المناطق * يبدو أن محاولات الإسلاميين لاغتيال القذافي كانت أكثر جدية من مجموعة المعارضة المدنية. لكن المؤسسة الأمنية للقذافي كانت هي الأخرى خبيرة في مثل هذه الأمور. * ظهرت الخلافات الحقيقية بين «إخوة الأمس» بعد أن صوت الليبيون في الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2014، ضد التيار الإسلامي، ما أدى إلى انحصار عدد من فاز من مرشحي هذا التيار إلى نحو عشرين فقط. * إعلان عملية «عاصفة الأرض» كانت مجرد استثمار من جانب السراج لحالة الاستنفار التي سبق وأعلنها لمواجهة أي هجوم على العاصمة. * في جنوب البلاد وعاصمته سبها، ما زال الوضع مأساويا. وتعد أكبر قبائل الجنوب: الطوارق والتبو، وأولاد سليمان، والمقارحة، والقذاذفة. * مصر تقوم بمحاولات حثيثة لإقناع الضباط الليبيين، ممن يعملون مع السراج ومع حفتر، أو لا يعملون مع أي منهما، لتوحيد المؤسسة العسكرية. * الأمر الثاني الذي يهم الأوروبيين، مثله مثل الإرهاب، هو الهجرة غير الشرعية التي تحولت إلى صداع للعالم الغربي في السنوات الأخيرة. إذا استمرت السياسات الحالية في ليبيا على ما هي عليه من فوضى فإنه من غير المرجح أن تنجح أي حكومة من الحكومات والسلطات المتنافسة بين الشرق والغرب والجنوب في وضع نهاية للمشاكل الرئيسية التي تمثل صداعا كبيرا لدول الجوار الليبي سواء في قارة أفريقيا أو الأخرى المطلة معها على البحر المتوسط من الشمال، ناهيك عن حياة العذاب والتشريد التي يعيشها ملايين الليبيين جراء هذا الواقع المرير. وأهم هذه المشاكل التي تطرق إليها زعماء دول مثل إيطاليا وفرنسا ومصر وتونس، وغيرها، قضية انتشار الجماعات الإرهابية، والهجرة غير الشرعية. وتسعى معظم الدول التي تخشى من مغبة تداعيات الفوضى الليبية، إلى وضع حلول عاجلة لإطفاء النيران التي يمكن أن تطالها، داخل حدود دولة ليبيا. ولهذا توجد محاولات حثيثة لإنهاء هذا الكابوس، كان آخرها ما طرحه رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، دومینیك دوفیلبان، من اقتراح بتشكیل دولة ليبية فیدرالیة، بضمانات وبرعاية المجتمع الدولي. ويعكس هذا الطرح على ما يبدو ما أصاب المزاج الغربي من ملل من استمرار دوامة الصراع والعنف في ليبيا، مع تدفق المهاجرين غير الشرعيين القادمين من أفريقيا إلى أوروبا، عبر ليبيا، بالإضافة إلى المخاوف من تنامي الخطر الإرهابي في القارة العجوز، نتيجة لتمركز تيارات تنتهج العنف على الساحل المقابل، منها تنظيم داعش. وسبق لأحد مساعدي الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، أن سرب معلومات تتعلق بمناقشات في أروقة أميركية حول مقترحات مماثلة جرى تناولها في وقت سابق. إلا أن فكرة تحويل ليبيا إلى حكم فيدرالي، لا تحظى في الداخل الليبي بذلك الزخم، حيث إنها تعتمد لدى رجال السياسة والأمن الغربيين، على نظام الحكم الذي كان في ليبيا في عهد الملك إدريس السنوسي، والذي بدأ منذ مطلع الخمسينات حتى أواخر ستينات القرن الماضي. ويقول أحد كبار مسؤولي الاستخبارات العسكرية الليبية إن الوضع في ليبيا تغير رأسا على عقب الآن. فإذا كان هناك حديث عن الفيدرالية، فإنه لا ينبغي أن يخرج من الماضي، ويوضع بكل سهولة على الطاولة. وفي رأي هذا المسؤول فإن إعادة النظام الفيدرالي، أو الحكم بما يشبه الاستقلال الذاتي للأقاليم الثلاثة؛ وهي طرابلس وبرقة وفزان، يمكن أن يفتح الباب لتقسيم ليبيا إلى دويلات. ويضيف: «في هذه الحالة لن تتحول البلاد إلى ثلاث دويلات فقط، بل قد يزيد العدد إلى سبع»، مشيرا إلى أن مكونات ثقافية (عرقيات عربية وغير عربية) ستبحث عن نفسها، وتطالب بأن يكون لكل منها دويلتها.الزعيم الليبي معمر القذافي وأدى غياب الدولة والإحباط من دوامة العنف وتدهور الأحوال المعيشية للمواطنين، إلى حالة من النكوص والانكفاء على الذات في كثير المناطق، ومنها منطقة الجبل الغربي التي يعيش فيها أغلبية أمازيغية، وتقع بين طرابلس وحدود تونس والجزائر، وكذلك بالنسبة لقبائل التبو ذات الامتداد في دول تشاد والنيجر، ويتركز وجودها في جنوب البلاد، ويتنامى بين أبنائها شعور بالتهميش وفقد الاتصال مع الدولة المركزية، منذ سقوط نظام القذافي حتى اليوم، مع العلم أن قطاعا من التبو كان يعمل ضد القذافي في مرحلة ما في السابق لأسباب مشابهة. وكانت هذه الشريحة من التبو، مثل كثير من المكونات الليبية الأخرى، من عرب وأمازيغ وطوارق، تعتقد أن التخلص من القذافي سينهي كل المشاكل. وتبين أن كابوس النظام السابق كان أهون من الواقع الراهن. وعلى كل حال… وفيما يتعلق بالمشكلة الأولى، وهي الإرهاب، فإنه يصعب على المراقب العادي وضع تصور محدد لأماكن وجود المجموعات المتطرفة والتنظيمات التي تنتمي إليها، ومقار تمركزها في دولة صحراوية تبلغ مساحتها نحو مليوني كيلومتر مربع، ولديها ساحل مواجه لأوروبا يبلغ طوله نحو ألفي كيلومتر. وتعد جماعة الإخوان المسلمين أقدم جماعة توصم بالتطرف في ليبيا. ودخلت إلى البلاد قادمة من مصر بعد خلافات مع السلطات في القاهرة في الأربعينات من القرن الماضي. وتحوي شهادات استقاها النائب في البرلمان الليبي، إبراهيم عميش، من مصادر تاريخية مختلفة، قصصا ضمن كتابه عن التاريخ السياسي لليبيا، تعكس خطر هذه الجماعة منذ قدومها إلى ليبيا، واستضافة الملك الليبي في ذلك الوقت لعدد من القيادات الإخوانية المصرية الهاربة، في قصره في بنغازي. فلم تمض عدة سنوات حتى نشر الإخوان المصريون فكر جماعتهم داخل القصر، وترتب على ذلك قيام أحد أفراد الأسرة المالكة، بعد أن أصبح مؤمنا بفكر الجماعة، بإطلاق النار على ناظر الخاصية الملكية، إبراهيم الشلحي، وقتله. وأصابت هذه الواقعة الملك الليبي بالفاجعة. لكنه لم يتخذ إجراءات رادعة، في حينها، ضد ضيوفه. ومنذ ذلك الوقت تشكلت نواة من الليبيين لجماعة الإخوان، وأصبح لديهم مطابعهم الخاصة وخلاياهم في عموم البلاد. لكن المد القومي العربي وخطب الرئيس المصري جمال عبد الناصر عبر إذاعة صوت العرب، وحركات التحرر في أفريقيا، تسببت كلها في فقد الجماعة أي تأثير يذكر في الشارع الليبي، آنذاك، إلى أن تولى القذافي الحكم. وعلى هذا فرت معظم القيادات الإخوانية إلى الخارج، مثلها مثل التيارات البعثية واليسارية وكل من كان يمكن أن يدير عملا سياسيا بعيدا عن سلطة القذافي. ومنذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي انتشر الإخوان الليبيون في كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. وكان القذافي قد أصبح في ذلك الحين خطرا على الغرب. ووفقا للقيادي في النظام السابق، يوسف شاكير، فقد كانت هناك محاولات عدة من جانب المخابرات الأميركية لقتل القذافي على يد معارضيه المقيمين في الخارج. ويشير في كتاب أصدره أخيرا إلى أن معظم هؤلاء المعارضين ممن كانوا من تيارات مدنية، فشلوا في تنفيذ أي خطط ضد القذافي داخل ليبيا، ما دفع المخابرات الأميركية إلى الاستعانة بالإسلاميين من تيار الإخوان ليتولوا مهمة التخلص من القذافي، حيث تم في ثمانينات القرن الماضي تشكيل جمعية إسلامية أميركية، معظمها من الإخوان الليبيين، لهذا الغرض. ويبدو أن محاولات الإسلاميين لاغتيال القذافي كانت أكثر جدية من مجموعة المعارضة المدنية. لكن المؤسسة الأمنية للقذافي كانت هي الأخرى خبيرة في مثل هذه الأمور. وترتب على حملات قامت بها السلطات في عهد القذافي ضد الإسلاميين، في هروب المئات منهم وانضمامهم إلى ما كان يعرف بالمجاهدين العرب في أفغانستان. إن أبرز القيادات التي ظهرت في تلك الظروف هي نفسها المتهمة اليوم بأنها شخصيات إرهابية تعمل في كيانات إرهابية، ومرتبطة بدولة قطر، وفقا لتصنيف أطلقته أربع دول عربية في صيف العام الماضي. ومن بين هذه الشخصيات الليبية الدكتور علي الصلابي، من التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وعبد الحكيم بلحاج، القيادي في الجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة بتنظيم القاعدة، وزميله في حقبة أفغانستان، سامي الساعدي، المسؤول في دار الافتاء الليبية، والذي يعتقد أنه يعيش منذ عدة أشهر في تركيا، وخالد الشريف، وكيل وزارة الدفاع، وكان ضمن قادة الجماعة المقاتلة في أفغانستان، وتقول المصادر إنه غادر ليبيا إلى إحدى الدول الآسيوية أواخر العام الماضي، بعد أن فقد السيطرة على منطقة الهضبة التي كان يتحكم فيها في جنوب طرابلس. إن أحد أسباب السيولة، وأحد أسباب الحدود غير الواضحة التي أصبحت عليها الجماعات المتطرفة في ليبيا، تعود أساسا إلى الخلافات التي وقعت بين أربعة قادة من الجماعة المقاتلة في عامي 2015 و2016.. وهم بالإضافة إلى بلحاج والساعدي والشريف، عبد الوهاب قايد، الذي كان مسؤولا عن الحدود الليبية في حكومة ما بعد القذافي. واستغلت جماعة الإخوان حالة الشقاق هذه في استثمار بعض القادة وتعضيد قوتهم، والإطاحة بالبعض الآخر ممن لم يرضخ لتوجهات الجماعة والدول التي تساندها وعلى رأسها قطر، وفقا لمسؤول المخابرات العسكرية نفسه. هؤلاء «الإخوة الأربعة» عملوا مع جماعة الإخوان بقوة، في البداية، ومع أتباعهم وأنصارهم، من ليبيين وغير ليبيين، لضرب ما تبقى من الجيش الليبي، ومنح الميليشيات الموالية لهم الضوء الأخضر للسيطرة على المعسكرات والآليات التابعة للقوات المسلحة الليبية، حيث قامت هذه الميليشيات بإكمال المهمة حين أجبرت نواب البرلمان السابق (المؤتمر الوطني)، على التصويت على قانون العزل السياسي الذي يمنع كل من عمل في نظام القذافي منذ عام 1969 حتى 2011 من أي حقوق سياسية أو وظيفية في الدولة. وظهرت الخلافات الحقيقية بين «إخوة الأمس» بعد أن صوت الليبيون في الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 2014، ضد التيار الإسلامي، ما أدى إلى انحصار عدد من فاز من مرشحي هذا التيار إلى نحو عشرين فقط. ومنذ ذلك الوقت أخذت الحياة السياسية في ليبيا طريقا مختلفة. ورفعت الميليشيا الموالية للإسلاميين السلاح ضد البرلمان، وتم منعه من عقد اجتماعاته في أي من المدن الكبرى، أي لا طرابلس في الغرب ولا بنغازي في الشرق. واضطر البرلمان إلى الابتعاد إلى مدينة طبرق التي تفصلها عن حدود مصر نحو 150 كيلومترا فقط. أما القوى الإسلامية التي سيطرت بقوة السلاح على طرابلس وبنغازي، فبدأت في تبادل الاتهامات عن السبب في هزيمتها. وسقط عدد من قادتها قتلى في عمليات اغتيال مجهولة. وأخذت الشكوك تحل محل الثقة بين «الإخوة» الذين تحولوا سريعا إلى أعداء. وبينما كان كل هؤلاء يواصلون التنسيق سويا لاستكمال عمليات التصفية لقادة الجيش خاصة في بنغازي، ودعم أنصارهم في درنة وصبراتة والجنوب، ظهر اسم الجنرال خليفة حفتر، ليعلن عن «عملية الكرامة» التي تستهدف التيارات المتطرفة، والخارجين عن سلطة الدولة. ولهذا عاد قادة الإسلاميين إلى العمل معا، لكن الخلافات والثارات بينهم لم تختفِ. ولعبت جماعة الإخوان على هذا الوتر. لم يرضخ خالد الشريف وسامي الساعدي لكل تعليمات الإخوان. وكان لدى كل منهما محاذير تتعلق بامتدادات التنظيم الدولي لـ«الإخوان»، واهتماماته، التي هي، في النهاية، ليست من أولويات الجماعة المقاتلة. وفي المقابل، لوحظ أن بلحاج، الذي ظهرت عليه علامات الثراء وارتداء الملابس باهظة الثمن، كان أكثر ميلا للعمل مع الإخوان هو وعبد الوهاب قايد، وهذا الأخير شقيق أبو يحيى الليبي، مساعد أيمن الظواهري، وكان الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، والذي قتل في غارة أميركية في مكان ما في باكستان في 2012. ووجدت باقي الجماعات المتطرفة مثل أنصار الشريعة، في خلافات قادة الجماعة المقاتلة، وفي نشاط الإخوان، وفي عداء كل هؤلاء لحفتر، فرصة للعمل على نطاق واسع انطلاقا من كل من بنغازي ودرنة. ويوجد تسجيل مصور لدى السلطات الأمنية الليبية يظهر فيه كل من الصلابي وبلحاج وهما في زيارة لمتطرفي أنصار الشريعة في درنة. وتحول قسم كبير من أنصار الشريعة إلى «داعش» فيما بعد. لكن التنسيق بين المتطرفين بشكل عام لم ينقطع إلا في فترات الهدنة مع حفتر. ويمكن القول إن الخطر الذي يمثله حفتر وقيامه بلملمة بعض ممن تبقى من الجيش بعد ضربات حلف الناتو في 2011. ساهم إلى حد كبير في جعل التيار المتطرف يؤجل خلافاته ومشاكله، لكن هذا لم يمنع من استمرار التصفيات الجسدية بين حين وآخر. والتحشيد من فريق ضد آخر، سواء في طرابلس وضواحيها، أو في سبها جنوبا أو حتى في بنغازي ودرنة. وتفاقم الوضع أكثر بعد أن جلب قادة الجماعة المقاتلة، عدة مئات من المقاتلين الأفغان والباكستانيين، بالإضافة إلى إيواء مئات من المتطرفين المصريين والتونسيين والجزائريين وغيرهم. واستغل هؤلاء المقاتلون الأجانب، بمن فيهم من أفارقة ينتمون لجماعة بوكو حرام، حالة الشكوك بين قادة الجماعة المقاتلة وتحالفاتهم مع الإخوان، وتنافسهم فيما بينهم، للتمركز في سرت مع باقي المنتمين لـ«داعش»، وأخذ زمام القيادة من الليبيين في المدينة، والقيام بأعمال بشعة من إعدامات وتعليق للجثث على أعمدة الشوارع. وحين بدأت حرب «عملية البنيان المرصوص»، ومعظم مقاتليها من شباب مدينة مصراتة، ضد تنظيم داعش في سرت، كان قادة التنظيم قد وجدوا لهم منافذ للهروب ومواقع آمنة للإقامة لدى شخصيات محسوبة على الجماعة المقاتلة وعلى الإخوان في مناطق صبراتة في غرب طرابلس، والخمس في شرق العاصمة وفي محيط سبها جنوبا.احتفال الليبيين بعد التصويت في الانتخابات سنة 2012. بعد 42 سنة من حكم معمر القذافي، شارك الليبيون في أول انتخابات ديمقراطية منذ 1969 ويبدو أن فريق الصلابي – بلحاج، وهو تحالف غريب بين الإخوان والقاعدة، هو المتبقي على الساحة حتى الآن داخل ليبيا، رغم أن إقامة هذين الرجلين كانت معظم الوقت في الخارج، إما في قطر أو تركيا أو السودان. أما الشريف والساعدي، فقد اختفيا من طرابلس بعد آخر معركة كبرى اشتركا فيها مع باقي قادة الجماعة المقاتلة والإخوان تحت راية واحدة، للسيطرة على طرابلس في مايو (أيار) العام الماضي. فشلت تلك المعركة التي بدأت فجرا انطلاقا من طريق مطار طرابلس الدولي، بشكل درامي، قبل صلاة المغرب في اليوم نفسه. وترتب عليها سيطرة قوات شبه نظامية مولية لرئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فايز السراج، على العاصمة. وتفرقت السبل بعدة مئات من المقاتلين الليبيين والأجانب، حيث يتخذ كثير منهم حاليا، من الصحراء الجنوبية الهشة أمنيا ملاذات مؤقتة. وهذا الواقع يزيد من حجم المعضلة الليبية، خاصة بعد أن رصدت الأجهزة الأمنية في ليبيا تدفق مقاتلي «داعش» المهزومين في العراق وسوريا على الجنوب الليبي، سواء كانوا قادمين عبر الحدود السودانية أو الحدود التونسية، خاصة في الشهور الأخيرة. وفي تحول لافت أعلن السراج قبل يومين عملية أطلق عليها «عاصفة الأرض»، لملاحقة فلول تنظيم داعش في البلاد. لكن هذه الخطوة تعكس حالة التداخل بين التنظيمات المتطرفة خاصة العلاقة بين الإخوان والمقاتلة فداعش. وبدا الأمر كالتالي.. أولا ظهرت معلومات لدى رجال السراج عن أن عسكريين من منطقتي مصراتة والزنتان، القوتين، التقيا سرا، ويخططان لاجتياح العاصمة وطرد السراج ودحر القوات الموالية له. وتعامل أعضاء في المجلس الرئاسي مع هذه المعلومات بجدية. وعلى ذلك جرى إخطار الأمم المتحدة ومجلس الأمن عن خطة اجتياح العاصمة. وسبق لقوات مصراتة إخراج قوات الزنتان من العاصمة في الحرب الشهيرة بينهما والتي نتج عنها تدمير مطار طرابلس الدولي وحرقه في 2014. وظلت هاتان القوتان على خلاف إلى أن سافر وفد اجتماعي مدني من مصراتة إلى الزنتان للصلح، قبل أسبوعين. وجرى إخطار السراج بأن الموضوع له جانب عسكري يعمل ضده، وأنه تم الاتفاق بين قوتي المدينتين على اقتحام طرابلس، وأن بعض القيادات من مصراتة والزنتان على علاقة بالجماعات المتطرفة بما فيها كل من الإخوان والجماعة المقاتلة وتنظيم داعش. وأن عشرات المقاتلين الأشداء والمتمرسين، من «داعش»، وصلوا بالفعل مع آلياتهم إلى بلدة ترهونة المجاورة لطرابلس من الجنوب. وتعامل رجال السراج مع الأمر. وأغلقوا الأسبوع الماضي عددا من مداخل طرابلس بالمتاريس والحواجز الترابية. وجرى رصد لإعادة انتشار بالدبابات في ترهونة من جانب خصوم السراج، وفي نفس الوقت أطلقت جماعة مجهولة قذائف صاروخية على مطار معيتيقة، ويقول أحد القيادات العسكرية في العاصمة إن مصدر القذيفة كان قادما من كتيبة مناوئة للمجلس الرئاسي. وفي اللحظات الأخيرة، أي في يوم 29 مارس (آذار)، تدخلت أطراف من الزنتان لإقناع قادتها بخطأ التحالف مع مصراتة، ضد السراج، وجرى التذكير بحرق مطار طرابلس وكيف أخرجت قوات مصراتة قوات الزنتان مهزومة من العاصمة قبل أربع سنوات. وبحسب مصدر شارك في القوات الموالية للسراج، فإن إعلان عملية «عاصفة الأرض» كانت مجرد استثمار من جانب السراج لحالة الاستنفار التي سبق وأعلنها لمواجهة أي هجوم على العاصمة، وفي نفس الوقت تعطيه فرصة لكي يقدم نفسه للعالم باعتباره ما زال قادرا على تحريك قوات على الأرض، ولمحاربة «داعش» سيئ السمعة. ويمر السراج بظروف صعبة، لأسباب كثيرة. فهو يبدو موافقا على مساعي توحيد المؤسسة العسكرية الليبية. وظهر رئيس أركان الجيش الذي يعمل تحت إمرته، اللواء عبد الرحمن الطويل، في اجتماعات في القاهرة مع رئيس الأركان في الجيش الذي يقوده المشير حفتر. وهذا أغضب قيادات عسكرية في مصراتة ترفض أي حوار أو تعاون مع حفتر. كما أن العلاقة بين السراج ووزير دفاعه، المهدي البرغثي، ليست على ما يرام منذ عدة أشهر. أضف إلى ذلك دخول الإخوان على الخط لتنشيط وتمويل قيادات في المجلس الرئاسي وفي مجلس الدولة، لصالحهم، بمن في ذلك قيادات عسكرية كبيرة من مصراتة والزنتان.الزعيم الليبي معمر القذافي وبينما يبدو الشرق أكثر هدوءا، باستثناء بعض العمليات التي يقوم بها المتطرفون ضد البوابات الأمنية للجيش، ما زال على حفتر رهان كبير لكي يثبت أنه قادر بالفعل على دحر الإرهاب. فمدينة درنة ما زالت خارج السلطة. ولم تتمكن القوات المسلحة من دخولها، رغم محاصرتها منذ مدة طويلة. ويتلقى مقاتلو درنة، وهي أول مدينة تعلن موالاتها لـ«داعش»، قبل أن تتقاتل مع العناصر الأجنبية من التنظيم، دعما من خليط من قيادات من جماعة الإخوان والجماعة المقاتلة، وبعض الدول الداعمة للإرهاب. أما في جنوب البلاد وعاصمته سبها، فالوضع ما زال مأساويا. وتعد أكبر قبائل الجنوب، الطوارق والتبو، وأولاد سليمان، والمقارحة، والقذاذفة (التي ينتمي إليها القذافي). وتمتد منطقة الجنوب من مدينة الكفرة شرقا، إلى مدينة غات شرقا، وبراك الشاطئ شمالاً. وبعد أن تقاتل أبناء هذه القبائل لعدة أشهر في الماضي باستخدام الأسلحة الثقيلة، لأسباب متفرقة، انحصرت العمليات العسكرية الآن بين مقاتلين من قبيلتي أولاد سليمان والتبو، في تنافس للسيطرة على حقول النفط، وطرق التهريب، إضافة للموالاة بين طرابلس (السراج) وبنغازي (حفتر). والمشكلة الكبيرة تكمن في أن التنظيمات المتطرفة تستغل هذه الحالة في تأسيس مواضع لأقدامها. وتمركز معظم من نجحوا من المتطرفين في عبور الحدود، واستقروا في الجنوب، في مناطق قرب أوباري والقطرون والهروج والجبل الأسود. إن مصر تقوم بمحاولات حثيثة لإقناع الضباط الليبيين، ممن يعملون مع السراج ومع حفتر، أو لا يعملون مع أي منهما، لتوحيد المؤسسة العسكرية، لكن طالما ظلت حالة التفكك وعدم التنسيق والاحتراب مستمرة على الأرض فإن أي جهود لحل الخلافات سوف تواجه بعراقيل تؤخر ظهور أي نتائج إيجابية. أضف إلى ذلك أن بعض الدول الراعية للجماعات المتطرفة، ترى في نجاح مصر في لم شمل العسكريين الليبيين، فشلا لها ولخططها التي أنفقت عليها أموالا طائلة منذ سقوط نظام القذافي حتى اليوم. لقد أثنى غسان سلامة، المبعوث الأممي إلى ليبيا، على جهود محاولات توحيد المؤسسة العسكرية، وهو يرى أنه ينبغي أن يتحلى الجميع بالجرأة لإزالة أي معوقات للمصالحة والوحدة والدخول في العملية الانتخابية، لكن يبدو أن الطريق ما زالت طويلة وفقا للمعطيات الموجودة على الأرض. ويبدو أن سلامة يدرك ذلك، فقد بدا في الآونة الأخيرة أكثر إحباطا على عكس ما كان عليه حين تولى مهمته لإنقاذ ليبيا قبل ستة أشهر. الأمر الثاني الذي يهم الأوروبيين، مثله مثل الإرهاب، هو الهجرة غير الشرعية التي تحولت إلى صداع للعالم الغربي في السنوات الأخيرة. واستغلت جماعات من البشر المتطلعين لحياة أفضل، إلى ترك الصحراء الأفريقية، والدخول إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا. وما زاد من مخاوف الأوروبيين في الفترة الأخيرة هو خطر تسلل عناصر متطرفة من تنظيم داعش ضمن المهاجرين غير الشرعيين. ويبدو أن المشكلة لن تجد طريقها للحل إلا مع تأسيس نظام قادر على الحكم والسيطرة على الحدود في ليبيا، سواء الحدود البرية أو البحرية، وهي التي يجري من خلالها تسيير مراكب الهجرة إلى أوروبا وتبدو معطيات المشكلة معقدة إذا تم النظر إليها عن قرب على أرض الواقع، بحسب ما جاء في أحدث دراسة عن هذه القضية صادرة عن معهد الجامعة الأوروبية بعنوان «الخصوصيات المحلية للهجرة في ليبيا: التحديات والحلول»، بواسطة الباحث عبد الرحمن العربي. ويقول العربي، وهو ناشط مهتم بقضايا الهجرة والقوانين المحلية والدولية المتعلقة بالهجرة، إنه من غير المرجح أن تنجح السياسات الحالية الرامية إلى الحد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر ليبيا، مثل مذكرة التفاهم بين الحكومة الإيطالية وحكومة الوفاق الوطني الليبية الموقعة أوائل 2017. خصوصًا من حيث الاستدامة في الأجلين المتوسط والطويل. فحكومة الوفاق الوطني لا تتمتع بسيطرة تذكر خارج حدود العاصمة طرابلس، مما يقلل من قدرتها على فرض السياسات في مناطق تعتبر أساسية لعمليات التهريب، خاصة جنوب ليبيا. ويشير التحليل الميداني في الدراسة لشبكات تهريب المهاجرين على المستوى المحلي، إلى اختلافات واضحة في طبيعة وتنظيم شبكات تهريب المهاجرين بين المناطق الجنوبية والوسطى والساحلية في ليبيا. وتقول: «من هنا، فإن وضع سياسة واحدة لجميع الحالات لن يحقق نتائج فعالة، بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية. لذلك من الضروري تصميم خطط وسياسات فعالة تعالج التحديات المحددة لكل منطقة على مستوى الجهات الفاعلة العاملة في تهريب المهاجرين وصلتها بالمجتمع المحلي». ويذهب إلى أن المنطقة الجنوبية تعتبر أساسية لتهريب المهاجرين، حيث تشكل نقطة انطلاق للتدفق المتجه من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى نحو البحر المتوسط: «وهي منطقة لا تزال إلى حد كبير خارج نطاق السيطرة الأمنية لحكومة الوفاق الوطني. كما أن مكافحة التهريب في الجنوب مسألة معقدة للغاية، حيث اتخذت طابعًا سياسيا نتيجة الصراع على النفوذ بين مختلف القبائل المحلية والأقليات غير العربية، ناهيك بالقضايا السياسية الهامة جدا كتلك المتعلقة بحقوق المواطنة والجنسية الليبية». أما في المنطقة الوسطى من ليبيا فـ«تختلف التركيبة الاجتماعية لشبكات التهريب عن تلك الموجودة في الجنوب والساحل، حيث نجد النسيج الاجتماعي المتماسك والمتجانس في المنطقة عمومًا وذلك بسبب انتماء سكان كل مدينة أو منطقة قبلية واحدة، ومع أن التماسك والتجانس وفرا لمهربي المنطقة حتى الآن درجة كبيرة من الحماية الاجتماعية – حيث يميل زعماء القبائل إلى التغاضي عن أنشطتهم لمنع نشوب الصراعات – إلا أنهما قد يوفران أيضًا مدخلاً لسياسات ناجحة لمكافحة الهجرة غير الشرعية».القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني الليبي (GNA) تشغل منصباً في منطقة سرت في الجيزة البحرينية في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، خلال اشتباكات مع «داعش» لاستعادة السيطرة على المدينة الساحلية المتوسطية. ويشير الباحث العربي إلى ما تتمتع به المجالس الاجتماعية والبلدية المحلية عمومًا من مستوى كبير من النفوذ والسيطرة على مجتمعاتها. ويقول إنه «إذا توصلت هذه المجالس إلى قناعة بأن مكافحة التهريب أمر ضروري جدا لاستقرار مجتمعاتها فقد تصبح شريكًا فعالاً لكل من الحكومة الليبية وشركائها الدوليين. كما سيكون الأثر الضعيف نسبيًا للمهربين على الاقتصاد المحلي في هذه المنطقة رصيدًا ثمينًا لهذه الشراكة. لكن يبقى التحدي الرئيسي متمثلاً في الانعزال المستمر لبعض المجتمعات في المنطقة الوسطى بعد عام 2011، فضلاً عن رفضها الاعتراف بالسلطات المركزية السياسية والأمنية». وبالنسبة للوضع في المنطقة الساحلية، فإن «الجماعات المسلحة المحلية التي تسيطر بشكل متزايد على عمليات تهريب المهاجرين في المنطقة الساحلية تركز منذ عام 2014 على تحقيق أقصى قدر من الأرباح، حيث يعتبر تأثيرها على الاقتصاد المحلي محدودًا للغاية. كما أن للحملات الأمنية التي تجريها قوات الشرطة المحلية وحرس السواحل سجلاً حافلاً بالنجاح في بعض المناطق، ولا سيما حين تستفيد من رفض المجتمع المحلي لأنشطة المهربين ومن المنافسة بين شبكات التهريب». وفي العموم أدى انقسام المؤسسات العسكرية والأمنية بين حكومات متنافسة في ليبيا، إلى ضعف هذه المؤسسات، وتكبدها ثمنا باهظا لمواجهة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، حتى لو حصلت على دعم خارجي. إن درجات التشاؤم ترتفع يوما بعد يوم. فوفقا لورقة سرية مقدمة من أحد الأطراف المخول لها تقديم توصيات سياسية خاصة بعمل الاتحاد الأوروبي، فإن هناك خطأ وقع منذ البداية فيما يخص اتفاق الصخيرات الذي نتج عنه المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق. وورد في الورقة أن من شاركوا في الحوار حول ليبيا برعاية المبعوث الأممي الأسبق، برناردينو ليون، منذ عام 2014. في جنيف بسويسرا، وفي الصخيرات بالمغرب: «لم يكونوا ممثلين للأطراف على الأرض، ولا سيما الميليشيات القوية». وتضيف: «تم تجاهل الحقائق المختلفة مثل التأثير القوي للميليشيات، وزعماء القبائل، والمارشال حفتر». وتقول: «يُنظر إلى فايز السراج وعدد من أعضاء مجلس الرئاسة في ليبيا على نطاق واسع على أنهم اختيار برناردينو ليون، الممثل الخاص للأمم المتحدة في ذلك الوقت». ويتحدث معد الورقة الذي زار مصراتة وطرابلس أخيرا عن أن اتفاق الصخيرات نص على أن البرلمان لا بد أن يصادق على حكومة الوفاق، وأن هذا الأمر لم يتم منذ انتقال السراج إلى طرابلس في نهاية مارس 2016 حتى الآن، مشيرا إلى أن المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق.. «لا يزالون يعتمدون اليوم على ميليشيات محلية ذات ميل إسلامي جزئي للأمن. في الواقع، المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، عاجزان تماما». وبالنسبة لحفتر، يوضح قائلا إن نفوذه خارج شمال برقة غالبًا ما يكون مبالغًا فيه. وكان غسان سلامة قد وضع خطة للحل في ليبيا باتباع عدة خطوات هي تعديل قانون العمل من خلال المفاوضات بين وفود من مجلس النواب (البرلمان) والمجلس الأعلى للدولة (هيئة استشارية مقرها طرابلس). ويبدو أن أوان تنفيذ هذه الخطوة قد فات، حيث كان مقترحا لها أن تنتهي قبل ثلاثة أشهر، لكنها لم تنته بعد. ولو كان قد تمكن من إنجازها في حينه، لأعقبها بالخطوة الثانية التي كان مقررا الانتهاء منها الشهر الماضي، وهي عقد مؤتمر وطنيا شاملا بين كل الليبيين. ولو افترضنا جدلا أن سلامة قد تمكن من تنفيذ الخطوتين الأولى والثانية، وهو أمر لم يحدث بعد، لكان الآن يجهز لطرح مسودة الدستور الجديد للاستفتاء العام، رغم أنه لم يتحقق أي تقدم في إيجاد مسودة مبدئية، أو تحضير قانون من البرلمان ينظم عملية الاستفتاء. وإذا ما انتهى من الاستفتاء، فإنه سيدخل مباشرة إلى أهم محور وهو إجراء انتخابات عامة. وتزيد الورقة من مأساوية المشهد حين تقول إن «هناك خطرا ملموسا للغاية من صوملة ليبيا. يمكن أن تتفكك ليبيا بطريقة خارجة عن السيطرة، تسمح لمختلف الإسلاميين الراديكاليين باستخدام أجزاء من البلاد لاستراتيجيتهم التوسعية خارج حدود ليبيا». ومع أن الورقة تبدو منحازة في توصياتها لأوروبا، حين تقول: «بما أنه من المحتمل أن تفشل خطة العمل الدولية وخطة عمل الأمم المتحدة، فيجب على الاتحاد الأوروبي أن يستعد لأخذ زمام المبادرة باستراتيجية جديدة لتحقيق الاستقرار في ليبيا»، إلا أن المجتمع الدولي، وليس أوروبا فقط، يمكنه أن يُظهر مزيدا من الجدية لمساعدة غسان سلامة على تنفيذ خططه لحل المعضلة الليبية، وتعضيد جهود توحيد المؤسسات، وإجبار أطراف الصراع على تقديم تنازلات مؤلمة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
مشاركة :