أن تكون معارضاً أو لا تكون

  • 4/7/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

في مشهد بانورامي تراجيدي قُبَيْل إسدال الستارة على قوافل التهجير والتبادل الديموغرافي ذهاباً وإياباً بين المنابع والمصبّات الشقيقة والصديقة، لم يعد النضال الوطني أو الإنساني، إلاّ أداة تندر لوطنيين، وقومجيين، وأمميين، وفاقهم في التندر عليه النضال الاخونجي بألوانه الداعشية والقاعدية والأردوغانية، اما البديل فهجين بقِيَمه وأحكامه وصداقاته وعداواته، ويتأهب للعمل السياسي الذي تحرّكت موسكو باتّجاهه مع صديقتيها اللدودتين انقرة وطهران، وتحاول تأكيده دستورياً في جنيف بالتعاون مع المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا. لم يبقَ أمام النظام وحلف التناقض الثلاثي الداعم له إلاّ الحسم السياسي، أو «الرتوش» التجميلي البديل عن المرحلة الانتقالية المنسية، وعن الحل السياسي الضائع بين العواصم الكبرى، وما كان له أن يكون حسماً محتملاً لولا الحسم الميداني، المسكوت عنه دولياً سكوتاً مريباً، لا سيما واشنطن التي لا ضوابط لشطحاتها ومفاجآتها، وهذا المآل قوامه دعم «صادق مشكو» من موسكو وطهران، وكذلك أنقرة ولو على مضض. قانون الأحزاب عام 2011 ودستور 2012 لا تُقرأ في فلسفتهما رؤية عميقة لطبيعة مرحلة خفض التصعيد، رؤية تشمل تلاشي المشهد الميداني في أبعاده السياسية عربياً وإقليمياً ودولياً، وفي ابعاده المافيوية الداخلية والخارجية، وخطوط الفصل والوصل بين الفصائل لا سيما التي حملت على عاتقها عبء محاربة الذات لمصلحة الآخر، ووظّفت جهادها في خلط الأوراق على كل المستويات، ما أدّى إلى حسم ميداني قد لا يستقيم أمره إنْ لم يُقرأ جيداً في دستور الدولة وقانون أحزابها، بما يتفهّم وجود الشوارد التي تتجمد أو تذوب حسب مقتضيات العرض والطلب. ولا بد للّجنة الدستورية الاممية اذا قُدّر لها التشكّل والحياة، ان تلحظ ذلك في قراءتها لمآل الامور. وفي كل الأحوال لا يستهان بما نتج عن ذلك الدستور وقانون الأحزاب، فقد أيقظا الرغبة المكبوتة في العمل الحزبي، ونظراً إلى نقص الخبرة فيه، اتّكأ المندفعون على الجهات الامنية التي لم تبخل عليهم بخبرتها وتوجيهاتها وخدماتها. وظهرت النتائج في تشكيلة منتجع سوتشي للحوار الوطني الذي ننتظر بفارغ الصبر لجنته الدستورية المختلَف عليها باعتبارها الوصفة السحرية لعلاج الوعكة الصحية التي المّت بسورية. قوافل الاحزاب الجديدة، المعارضة طبعاً، وُلدت من رحم ذلك القانون، وسبقتها محاولات ومبادرات لإصلاح ذات البين قُبيل استفحال الازمة، لم تلقَ أذناً صاغية. وبعد سنوات من الصراع والمواجهات الميدانية التي ضربت اسس المجتمع السوري، طُرحت مسألة المصالحات، وهي الصيغة البديلة لمضمون هاتيك المبادرات. الاولى كانت خطوة وقائية لم تُعتمد، والثانية- المُعتمدة- حقنة علاجية للمرض بعد استفحاله، والتاريخ يعتبر اتفاقات الاذعان مهدئات لا تقضي على العلَّة ولا تعمّر طويلاً. في كل حال هذا المُتاح لا يستهان به مرحلياً بانتظار هاتيك اللجنة أو ما يقوم مقامها لا لإنهاء الصراع الإقليمي والدولي في سورية، بل لشرعنة نتائجه الكارثية عليها. وما ولد حتى الآن في الساحة الداخلية من أحزاب وتيارات ومبادرات وما يماثلها في المنتجعات الخارجية، جميعها قلقة على نفسها في الرتوش السياسي، او المرحلة الانتقالية، وهما لا يختلفان إلا شكلياً من حيث المآل، ويُفترض بلجنة سوتشي أن تترجم هذا التوجُّه دستورياً. الأهم في ما أفرزته الأزمة وقانون الاحزاب وبروز المعارضة الخارجية، هو خلق جوّ من الرغبة في نهج الاعتراض قد يتطور لاحقا الى معارضة محلية، كجائزة ترضية، تُبنى على فاعليتها المحدودة حياة سياسية تعددية غير مُنفلت زمامُها، وتتسابق الاحزاب الجديدة والقديمة، والتي بين بين، لتنال شرف الاعتراف بها معارِضَة برضى النظام ودعمه لنضالها ضده، ما يشكل حلّاً وطنياً إجرائياً في وجه قراءة المجتمع الدولي لمضمون قراره الأممي 2254. في المشهد السياسي التحزُبي المعارض بفرعيه المحلّي والعابر للقارّات، يتسابق المستجدون لنيل شرف النضال مع ركب ايٍّ منهما، سواء في الفرع المُغنَّج دولياّ، او الفرع المغنّج محليّاً، أو الزنزانة التي تؤهّل روّادها إمّا للهلاك أو لسوبّر معارض مُرحّب به في منتجعات التعارض وعلى شاشاتها وفي أماكنها «المحررة»، ما يغنيه عن الدخول في الحسم الداخلي المرتقب. الآن وقد دارت عقارب الساعة إلى الوراء سياسياً، فجميع الأطياف والفصائل والأحزاب والهيئات المعارضة، تجهِّز وثائق حُسْن السلوك المعارض، أو سوء السلوك الموالي، التي تؤهلها لمعارضة النظام، ومعارضة معارضيه في الخارج، وقبولها هكذا لدى المرجعيات الأمنية ترجمةً للتعددية السياسية، أو زجّها في منظومة الوحدة الوطنية شريكاً قنوعاً بما يجود عليها به صُنّاع القرار. المعارضة المغنّجة محلّياً الجديدة والمخضرمة أكثر مرونة واستيعاباً وقابلية لفكرة التساهل في أيديولوجية التغيير من الكلّي الانقلابي دفعة واحدة الى التدريجي المتطور، أو من الجزئي المتاح إلى ما يستجرّ جزئيات أخرى، وهكذا. ولا ضير باحتواء فلسفتها على مبدأ استمرار جزء من النظام للاستفادة من خبراته في استقرار الأوضاع، وضبط إيقاع الحياة، وما عدا ذلك لا تساهل فيه. والباب لم ولن يغلق في وجه أي مناضل قديمٍ أو مستجدّ يرغب في الانخراط في ركب المعارضات الوطنية حصراً، وليس المعارضات الخارجية. المشكلة ليست في من استقر وضعه مع هذا الفريق أو ذاك، ولا في الشوارد القلقة الباحثة لنفسها عن مأوى معارض يقيها تقلبات الزمان، وإنما في القراءة الاجرائية البراغماتية لفلسفة الاعتراض الوطني واللاوطني بعد اختلاط الاوراق، وضياع الحدود بين التدخّل الخارجي المرغوب فيه، والتدخل المستورد المُختلَف على الرغبة فيه او عدمها، والتدخّل اللامرغوب واللامستورد، وهذه الحالات تبدو الآن افتراضية باعتبارها تنتسب الى مآلٍ احتمالي، لكن بوادرها بدأت تظهر، وتمهد لجوّ إشكالي معقّد، يفتش سدنته عن سفينة النجاة من عواصف الإهمال ذات المنشأ الأمني الذي لا يفصل بين المصالح السياسية والاقتصادية، وفق العادات والتقاليد المتوارثة.     * كاتب سوري

مشاركة :