رحلة حب بين الواقع والخيال بحثا عن "المايسترو"

  • 4/8/2018
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

في بداية الفيلم الأميركي الجديد “في البحث عن فيلليني” In Serach of Fellini للمخرج تارون ليكستون، تظهر عبارة على الشاشة تشير إلى أن “الفيلم يستند إلى قصة حقيقية”، وهي عبارة تبدو بعيدة عن الصدق كلما تعمقنا أكثر فأكثر في أحداث الفيلم. “في البحث عن فيلليني” فيلم رومانسي، عن الولع بالسينما، ولكن ليس بأي سينما، بل بسينما الفن، وتحديدا بعالم المخرج الإيطالي المرموق فيديريكو فيلليني، لكنه في الوقت نفسه، فيلم عن البراءة الأولى في مواجهة العالم، أي كيف يمكن لشابة في العشرين من عمرها هي “لوسي”، التي قضت حياتها حتى اللحظة، تعتمد تماما على أمها (كلير) وخالتها (كيري) في كل ما تفعله، أن تتحرر من قيود الأسرة الضيقة في تلك البلدة المحلية وتخترق العالم بل وتلتقي أيضا بالعبقري الذي كان السبب في اقترابها من النفس البشرية ولكن من خلال أفلامه التي تمتلئ بالمشاهد الساحرة. لقد فعلت أمها كلير كل ما يمكنها من أجل ما تعتبره “حمايتها” من كل شرور العالم وتحصينها ضد الصدمات المحتملة كما تروي بصوتها في الجزء الأول من الفيلم. وتدور الفكرة حول ما الذي يحدث عندما يُلقى بفتاة خجولة، بريئة، إلى الواقع، إلى قلب الحياة، في حين أنها قضت طفولتها ومراهقتها تعيش في الخيال، تمارس رسم الكائنات الغريبة وتشاهد أفلام الأطفال. كيف ستتمكن من التعامل مع العالم في حين أنها لم تفلح في تأمين دراجتها التي أخذتها الشرطة في أوهايو بعد أن وضعتها في مكان يحظر الوقوف فيه. وكانت هي قد عادت من مقابلة كانت تأمل من وراءها الحصول على وظيفة في إحدى شركات الإنتاج السينمائي. لكنها وجدت أنها على وشك الوقوع في براثن مخرج للأفلام الإباحية. اكتشاف الساحر يلعب القدر دورا حاسما في حياة لوسي عندما تشاهد فيلم “لاسترادا” (1954) لفيلليني ضمن عروض مهرجان مخصص لأفلام “المايسترو”. تأسرها شخصية زامبانو التي يقوم بها أنطوني كوين، في دور “الحاوي” المتجول، الذي اشتهر بتقييد جسده بسلسلة حديدية ثم تحرير نفسه منها بقوة عضلاته، وتأسرها بوجه خاص، شخصية “جيلسومينا” التي تقوم بها جوليتا ماسينا (زوجة فيلليني في الواقع حتى وفاته) تلك المرأة الصغيرة الحجم، واسعة العينين، ذات النظرات البريئة المندهشة. وفي الفيلم الكثير من التقابلات المقصودة بين الشخصيتين: لوسي وجوليتا، كما لو كانت لوسي قد أصبحت امتدادها الحي. لعل أفضل ما في الفيلم والأكثر جاذبية لمن يشاهده هو الأداء البديع، البسيط التلقائي من جانب الممثلة الكندية الجميلة “سينيا سولو”، ذات الوجه الساحر، في دور لوسي، بعينيها المتسعتين في دهشة طفولية تحصل لوسي على شرائط فيديو لأفلام فيلليني وتنكب على مشاهدتها، تجد فيها من السحر والجمال وأساسا الخيال، وهو ما لا يتوفر في الأفلام الأميركية. وهي تشرح الأمر لأمها فتقول إن هذه الأفلام فيها نوع من الشجن الحزين، فهي لا تنتهي نهايات سعيدة، وربما تحتوي أيضا على شخصيات غريبة الشكل، لكنها حقيقية، تعبر عن نفسها جيدا، ولكن جمالها يكمن فيما تخلقه من سحر.. ففيلليني “ساحر” يصنع العجائب. ومن وراء أمها وخالتها اللتين تفرضان رقابة لصيقة حولها خشية أن تتورط في مشكلة ليست مؤهلة لمواجهتها، تتصل لوسي بروما وتتوصل الى رقم الاستديو الذي يعمل فيه فيلليني تريد أن تتحدث إليه، لكنها تفاجأ عندما يقول لها مساعده “ماريو” إنها يجب أن تحضر بنفسها في الثالثة بعد ظهر اليوم التالي لمقابلة فيلليني شخصيا! عليك أن تصدق أن من الممكن أن يحدث شيء كهذا، للوسي أو لغيرها، وخاصة مع فيلليني في عام 1993 زمن وقوع الأحداث، أي قبيل وفاة فيلليني. لكن هذا ما يحدث في فيلم يغلب فيه الخيال على الحقيقة، ويبدأ بعبارة منسوبة لفيلليني تظهر على الشاشة تقول “الواقعية شيء سيء. أنا لا أرى شيئا يفصل بين الواقع والخيال”. ويمكن بالطبع أن يكون هذا الاقتباس “مدخلا نظريا” يعبر عن رؤية المخرج تارون ليكستون نفسه الذي لاشك أنه مولع شخصيا، بأفلام فيلليني وبسينما الفن الأوروبية عموما. وهو يستخدم خلال الفيلم، عشرات المقاطع من أفلام فيلليني الشهيرة مثل “لاسترادا، الحياة الحلوة، ثمانية ونصف، ليالي كابيريا، جوليتا والأشباح، ساتيريكون- فيلليني. ويربط بين هذه المقاطع، وخاصة تلك اتي تظهر فيها جوليتا ماسينا، وبين لوسي وما تواجهه خلال رحلتها الغريبة في ربوع إيطاليا “بحثا عن فيلليني”. رحلة إلى إيطاليا إنها تحاول أولا إقناع أمها بأن تصحبها في الرحلة، لكن الحالة الصحية للأم لا تسمح لها بالسفر، كما أنها ترغب في دفع ابنتها للتعرف بمفردها على العالم فقد تغادر الحياة وتتركها في أي وقت، خاصة وهي مصابة بسرطان الرئة. تلقي لوسي بنفسها في أتون التجربة. حاولت الأم أن تفهم سر إعجاب لوسي بأفلام فيلليني حاولت الأم أن تفهم سر إعجاب لوسي بأفلام فيلليني تسافر إلى إيطاليا ولكن بدلا من أن تهبط في روما تجد نفسها في فيرونا، لكنها تلتقي بشاب مولع مثلها بالرسم، تقع في حبه، يمنحها الإحساس بالنشوة الحسية لأول مرة. لكنها تود اللحاق بالموعد. هل يمكن أن تأتي في اليوم التالي؟ مستحيل فقد غادر فيلليني الاستديو. يقول لها ماريو بعد أن هاتفته: استمتعي في فيرونا وتناولي الحلوى اللذيذة التي تشتهر بها المدينة ثم عودي واتصلي بعد أسبوع. تذهب لتشتري الحلوى. تتناول قطعتين. يقول لها البائع: كلي واشربي وقعي في الحب. ستمضي أسبوعا مع حبيبها الشاب وعندما يقول لها ماريو إن فيلليني سيقابلها إذا تمكنت من الحضور فورا، تركب القطار لكن بدلا من الذهاب إلى روما تجد نفسها في فينيسيا، وهناك تدخل في دوامة من السحر والشر، المتعة والعذاب والخوف، الحياة الليلية المتحررة حد التحلل، والبراءة التي توحي بها المدينة الجميلة التي لا تكشف أسرارها لأحد بسهولة، مع تحذير من إمرأة مجربة من الرجال المخادعين. تندمج كما لو كانت منومة في حفل تنكري يمتلئ بشخصيات ترتدي الأقنعة تشبه شخصيات فيلليني، قريبة الشبه بما نراه في “الحياة الحلوة” و”ساتيريكون”. الحقيقة والخيال لا نعرف هل الشخصيات التي تقابلها لوسي حقيقية، أم من وحي خيالها المشبع بعالم فيلليني: نساء سمينات، إمرأة تلقي بنفسها في المتعة تشبه كثيرا أنيتا أكبرج في “ثمانية ونصف”، مخرج سينمائي إيطالي يدعى “غويدو” (ألم يكن هذا اسم المخرج في فيلم ثمانية ونصف؟) يحاول إغواءها لكنها تصده، شاب يحاول اغتصابها لكنها تفلح في الفرار منه لتجد نفسها في طريق مسدود. الصور تتداعى من وعي لوسي ولكن من دون سياق درامي واضح. في الثلث الأخير من الفيلم يظل الفيلم ينتقل من لوسي في فينيسيا إلى أمها وخالتها في أميركا بعد أن قررت الأم مشاهدة أفلام فيلليني لكي تفهم ما الذي جذب ابنتها إليها. ومن خلال تعليقات المرأتين، يسخر الفيلم من سذاجة وسطحية المتفرج الأميركي المتوسط، وعجزه عن الاستمتاع بسينما الفن الجميل والخيال الحر الذي لا يندرج في سياق قصصي واضح. أداء بديع، بسيط أداء بديع، بسيط ولعل هذا ما أراده لفيلمه المخرج تارون ليكستون، ولكن من دون عمق أو براعة أو إقناع، فيظل الفيلم تارة فيلما من أفلام المراهقة الخجولة الساذجة التي تتعرف للمرة الأولى على العالم لتنضج في ضوء التجربة، وتارة أخرى كفيلم من “أفلام الطريق” حيث تخوض البطلة الصغيرة مغامرات كثيرة حافلة في أماكن جديدة تتوالى عليها، وتارة ثالثة كفيلم سياحي يستعرض أهم وأشهر الأماكن السياحية في فيرونا وفينيسيا ثم روما التي تصل إليها لوسي أخيرا وفي يدها قطعة ورق مدون عليها عنوان فيلليني في “فيا مرغوتا”. هل ستلتقي فيلليني وتستمع إليه كما أرادت؟ أم ستعثر أمامها على شبح يتبدى لها من وحي خيالها؟ هل ستتخلى أخيرا عن الخيال وترضى بالواقع، أم أنّ أفضل ما يمكنها أن تلقاه أن تظل تنتقل بين الحقيقة والخيال؟ عالم فيلليني أراد تارون ليكستون أن يجسد حلم فتاة بالخروج من عالمها الضيق المحدود إلى عالم الساحر الكبير، إلا أنه لم ينجح في تقديم تبرير مقنع أولا، لهذا التحول الغريب عند فتاة أميركية محلية في العشرين من عمرها، ثم لم ينجح ثانيا، في الربط بين عالم فيلليني وعالم لوسي، فجاء البناء خاصة في النصف الثاني من الفيلم بعد أن تذهب إلى إيطاليا، متنافرا، مفككا، مفتعلا، يغلب عليه التصنع، تحدث الانتقالات خلاله على نحو عشوائي. كما يمتلئ الفيلم بالكثير من الشعارات عن الحياة والحب وضرورة الاستمتاع باللحظة. ولعل أفضل ما في الفيلم والأكثر جاذبية لمن يشاهده هو الأداء البديع، البسيط التلقائي من جانب الممثلة الكندية الجميلة “سينيا سولو”، ذات الوجه الساحر، في دور لوسي، بعينيها المتسعتين في دهشة طفولية، وطريقتها البسيطة في الحديث، وإطراقها الخجول، مع طاقة وحيوية تثيران الدهشة. يبقى الفيلم في النهاية وفي أفضل الأحوال، تحية سينمائية لمخرج عظيم. فهل من المعقول أن نصدق أن أول ما تزوره لوسي في روما هو قبر الموسيقار الكبير نينو روتا، مؤلف موسيقى غالبية التحف السينمائية التي أخرجها فيلليني؟!

مشاركة :