لم يكتفِ خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإنهاء وحسم الخلاف الخليجي وطي صفحته القاتمة، بعد أن راوح مكانه نحو تسعة أشهر وصل خلالها إلى أقصى نقاط الافتراق، حتى ظنّ المتربّصون أنه حان الاحتفال بسقوط مجلس التعاون وتنابذ أطرافه وتحوّله إلى بوابة استغلال وقواعد متضادّة تخدم أغراضهم، بل أعلن أمس أن تمكين الوحدة الخليجية لم يكن سوى خطوة تؤسّس لاتحاد عربي تدخل مصر مرحلته الأولى، كاشفاً أنه إحدى نقاط الاتفاق في تلك القمة الفريدة، التي يبدو أن مخزونها الإستراتيجي من خطوات الفعل والحركة لم تتكشّف ملفاته الكاملة بعد. من خلال تصريح الملك عبدالله الواضح حدّ الصرامة والحسم في مضامينه، فإن الاتحاد الخليجي سيكون خطوة أولى، سواء أُعلن نشوؤه مستقلاً، أو جاء ضمن المنظومة العربية الجديدة التي تنتظر الإعلان حال اكتمال مسح وإلغاء كل عوامل الاختلاف والخلاف بين قطر ومصر، لتتحقق الخطوة الثانية في التشكيل المتناغم بصوته الواحد وهدفه المشترك. اللافت في هذا التصريح أن الملك أدرج الإعلام في هذا العمل المشترك، باعتباره عوناً للشعوب العربية والإسلامية «لتحقيق الخير ودافعة للشر»، ثم خصّ إعلام الخليج ومصر بالسعي إلى إنجاح خطوة التقارب في مسيرة التضامن، متيقّناً أن «قادة الرأي والفكر ووسائل الإعلام في دولنا سيسعون إلى تحقيق هذا التقارب الذي نهدف منه - بحول الله - إلى إنهاء كل خلاف مهما كانت أسبابه، فالحكمة ضالّة المؤمن». الاستجابة المتوقعة لهذه الرسالة ستجيء من الإعلام المصري بوقف الحملات ضد قطر، وإعلان قناة «الجزيرة» وقف حملاتها التحريضيّة ضدّ الحكومة المصرية وإغلاق «مصر مباشر». من المؤكد أن الصحف المصرية ستحمل في عناوينها اليوم قبول الدعوة والعمل على تحقيق التقارب، والظن أن «الجزيرة» لن تتأخر كثيراً لأن هذه دعوة إلى عمل جماعي والتزام مشترك، كما أنها تجعل المبادرة ذاتية من دون ضغوط سياسية، وتحيلها إلى شريك في هذه العملية التي تحدّدت هويتها ولا يمكن التراجع عنها. يؤكد هذا الظن أن الملك خاطب الإعلام مباشرة وأكد اليقين به والثقة به، وهي خطوة لا يمكن تجاهلها إلا من خصم لا يرتضي للأمّة نهوضاً ولبلدانها استقراراً ولشعوبها الخير والازدهار. التوافق والإجماع المرتقبان ستكون مصر محوراً أساسياً فيهما، وربما يتّسعان لاحقاً ليشملا الأردن والمغرب، أي الدول الناجية من فوضى الربيع العربي وانعكاساته الإرهابية، القادرة على أن تساهم وتسند الدول المتضرّرة وتعالجها من الانكسارات، وهو ما يعني أن التكتل المتوقّع سيكون فريق إنقاذ عربياً يتحرّك بسرعة وفاعلية وطاقة محركة كثيفة ومتضامنة، ربما يكون التقارب عبر تشكيل وحدات عسكرية للدفاع المشترك، وخلايا عمل للسيطرة على الإرهاب واجتثاثه، وفرق تنموية تضخ الروح في الاقتصادات المتهالكة، وتعيد لها الحيوية وتوفر لها عوامل النمو. وفقاً لكلمة الملك عبدالله القائد الذي برهن مراراً حزمه في القرار، وعدم مساومته في الشأن العربي، والتزامه حماية الأمّة وتحصينها، والجدية في العمل، والصرامة في الموقف، فإن قمة «الأحد» لم تكن مجرد مصالحة خليجية، بل تضمنت خطة عمل عربية شاملة لها ملامح دقيقة، وخطوات زمنية مجدولة، وهي المرة الأولى والوحيدة التي يشكل فيها العرب مبادرة تنفيذية بهذا المستوى من القوة والتنوع، تستعيد القرار العربي، وتحيل مفردات «التضامن» و«التعاون» و«العمل المشترك» إلى واقع حقيقي ومبادئ يلتزم بها الجميع. التاريخ هو أحداث وتبدّلات جذرية يصنعها الرموز، والملك عبدالله إن قال فعل كما يعرف الجميع، فلم تكن كلمته يوماً قولاً عابراً أو زخرفاً من القول، بل موقفاً لا يدعه حتى يرسيه ويثبّته، ويكون صفحة مشرقةً في التاريخ.
مشاركة :