لا تقتصر الأسباب الدافعة لتبلور ثورةٍ في فهم الإسلام وتنزيله على الواقع، في سوريا وانطلاقاً منها، على المشكلات التي أظهرت (داعش) وجودَها في التراث الإسلامي كما شرحنا في أكثر من مقال. فقد أظهرت الثورةُ السورية، قبلَ ذلك، فشلَ ثلاثة أطراف إسلامية، مختلفة في وظائفها وأدوارها، في استيعاب معاني الثورة من خلال قيم الإسلام الأصيلة. حدثَ هذا مع بداية الثورة التي لم تكن (إسلاميةً) بالمعنى السائد للكلمة. إذ لم يتمكن ممثلو الإسلام الشرعي والسياسي أولاً، ثم العسكري/ الجهادي بعد ذلك، من تركيب معادلةٍ يُمكنُها الجمعُ بين مطالب الثورة الأساسية (الحرية والكرامة والمساواة والتعددية والديمقراطية وسيادة القانون ومحورية مفهوم المواطَنة..)، وبين القيم والأصول، التي لا تُعطي فقط مشروعيةً لتلك المطالب، في جوهر الفهم الإسلامي، بل تمنحُها أولويةً قُصوى في عملية تنزيل الإسلام على الواقع الاجتماعي الإنساني. ولم يكن في رصيدهم الثقافي ما يُسعفُ حين يتعلق الأمر بملابسات صناعة السياسات الدولية والإقليمية، والتعقيد البالغ الذي يميزها، اللهم فيما عدا اختزال الأمر في أن (الجميع ضد الثورة، والجميع ضد سوريا، والجميع ضد الإسلام). هذا فضلاً عن الفقر المدقع فيما يتعلق بمفاهيم بناء الدولة، أو استمرارها، في هذا العصر. سواء تعلق الأمر بمقتضياتها أو هياكلها أو ثقافتها أو آليات عملها، وما يتطلبه هذا من خبرات وتخصصات وكوادر. لهذا، كان طبيعياً في الفترة اللاحقة، حين اشتعل حديثُ البعض، وأحلامُ الآخرين، عن (أسلمة) الثورة، ألا تتمكن الأطراف الثلاثة من تقديم نموذجٍ قيادي ناجحٍ للثورة، ينبثق من الإسلام، لا على مستوى الرؤية، ولا على مستوى الأفراد، ولا على مستوى الهياكل والتنظيمات. من الضرورة بمكان التأكيدُ هنا على أن هذا الكلام ليس هجاءً، وإنما هو محاولةٌ لتحليل واقع الحال. والحقيقةُ أنه، بالنظر لمرحلة ما قبل الثورة، لم يكن بالإمكان أحسنُ مما كان. فقد كنا نعيش في سوريا أزمةً كبرى في فهم الدين وفي طريقة تنزيله على الواقع، كما هو الحال مع معظم الشعوب العربية، لكن ظروف ما قبل الثورة و(القوانين) الفكرية والاجتماعية السائدة في تلك الفترة لم تكن تسمح بتداول هذه الأزمة بكل درجات الوضوح والصراحة والشمول المطلوبة لمناقشتها، فضلاً عن تقديم حلول حقيقية لها. كانت الإشكاليات كبيرةً في فهم الدين، وجاءت، بالتالي، عملية تنزيل الدين وتطبيقه على الواقع مشوهةً إلى حدٍ كبير. فقد كان نادراً جداً أن يكون الدينُ عِلماً وتخطيطاً وتنميةً وإدارةً وتنظيماً وفهماً للعالم واهتماماً بالشأن العام وتركيزاً على قراءة سنن إعمار الأرض، بينما كان شائعاً جداً أن يكون الدينُ كماً هائلاً من فتاوى ودروس ومواعظ تُركز على كل ما هو شخصي ورمزي وشعائري. بمعنى أن الجهد كان قليلاً لربط الشخصي بالعام ولربط الرمزي والشعائري بالمقصد والمناط على مستوى وجود جماعة بشرية في إطار (دولة). بل إن تلك الفتاوى والدروس والمواعظ رسَّخت في المجتمع السوري، على درجات متفاوتة، قيماً لا تمت بصلة إلى أصالة الإسلام وتعاليم القرآن. حصل هذا في مواضيع أساسية كثيرة، منها على سبيل المثال فقط: قضايا المرأة، العلاقة مع الآخر، الموقف من العقل، الموقف من العلم، حرية المعتقد، الآبائية والتقليد، تحويل الإسلام إلى شريعة إصر وأغلال، تقديس اجتهادات البشر، الإيحاء بأن تعظيم الخالق يزداد بتحقير الإنسان.. وجرى أثناء ذلك الخلطُ بين الكُليات والجزئيات، والأصول والفروع، والثوابت والمتغيرات. هذا فضلاً عن توظيف الدين لتبرير الواقع القائم في كثير من الأحيان بقصدٍ أو دون قصد.. إذ لم يمتدﱠ النظر والتحليل إلى واقع الظلم والفساد والتخريب الممنهج في كل مجالات الحياة، والذي كان يُمارس على البلاد بأسرها وعلى المجتمع بإجمال. لم تُربى الأجيال في معظمها على أن هذا الواقع والممارسات التي تقف وراءه هي في حقيقتها أكبرُ انتهاكٍ لتعاليم الدين، وأعظمُ في تأثيرها السلبي من انتهاك بعض أوامره ونواهيه على المستوى الفردي. لا ينفعنا في شيء تلك (الهمسات) التي كانت تتم هنا وهناك، والتي تُعبر عن (استنكارٍ) تقليدي للواقع، يجري التعبير عنه في دوائر مُغلقة وضيقة للغاية. إذ لم يجرِ الربط الواعي، في أذهان الجماهير الواسعة، بين الدين ودوره الحقيقي كأداةٍ كبرى للتحرير والإعمار. من هنا، اقتصر ما يُسمَّى بـ(العودة) الجماعية للدين بين السوريين، مع تطور أحداث الثورة وكثرة تحدياتها، على المعاني المتعلقة بالإيمان والتوكل والتسليم والتضحية، وغابت تجليات دينٍ يتمثل جوهرهُ في امتلاك أدواتٍ تعين أصحابها على التعامل الفعال مع العالم ومع الفضاء العام، ومن مدخل عالم الأسباب والسنن. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :