بين (أسلمة سوريا) و(الثورة في إسلامها).. ملاحظاتٌ منهجية (8) | د. وائل مرزا

  • 12/21/2014
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

يحتفل الشرعيون دائماً، بمن فيهم السوريون، بالمقولة التي تتحدث عن تغيير الإمام الشافعي لآرائه الفقهية بعد انتقاله من العراق إلى مصر. ورغم أن ثمة أقوالاً تنفي حصول التغيير المذكور لاختلاف البيئة والظرف، إلا أن من النادر أن تجد في علماء الدين المعاصرين من لا يحتفي، نظرياً، بقضية المرونة الكامنة في تنزيل أحكام الإسلام على الواقع الإنساني. يشيعُ هذا الاحتفاء، نظرياً مرةً أخرى، بناءً على أقوال علماء لهم وزنهم في التاريخ الإسلامي، قد يكون من أشهرها ما ذكره ابن القيّم في كتاب (إعلام الموقعين) تحت فصل (في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) حين قال: "هذا فصلٌ عظيم النفع جداً، وَقعَ بسبب الجهل به غلطٌ عظيمٌ على الشريعة أوجب من الحرج والمشقّة وتكليف ما لاسبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها. فكل مسألةٍ خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل". لكننا أكَّدنا أكثر مرة، أعلاهُ، على الصفة النظرية للاحتفاء، لأن الناظر إلى تاريخ المسلمين بشكلٍ عام، وفي سوريا التي نحاول أن تكون موضوع البحث تحديداً، لا يجد تغييراً يُذكرُ على مستوى المدونة الفقهية التقليدية المُعتمَدة على مدى العقود، بل القرون، الماضية. لا نتحدث هنا عن جُملة فتاوى فردية تُقدم للبعض بين آونةٍ وأخرى للتيسير أو التبرير. وإنما عن مجتمعٍ، مسلمٍ في غالبيته، مرَّ، خلال القرن الماضي على الأقل، بتغييرات تكاد تكون جذرية فيما يتعلق بواقعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري، وتَقلبَ في ظروف دولية شهدت حروباً عالمية وثورة صناعية ثم معلوماتية وسقوط منظومات أيديولوجية وسياسية ضخمة، وبروز منظومات عالمية سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية عابرة للقارات، تغيرت معها ملامح الحياة الإنسانية في مجتمعات الأرض دون استثناء. رغم كل هذا، بقيت المدونة الفقهية صامدة في مجملها، ما خلا بعض اجتهادات حاولت تركيب مفاهيم تتعلق بـ(بنوك إسلامية) هنا، وبإنشاء (إعلامٍ إسلامي) هناك. ثمة، بشكلٍ عام يتجاوز الحالات الفردية، جمودٌ كامل على الغالبية العُظمى من (أقوال الرجال) التي حاول أصحابُها تحقيق مقاصد الإسلام من خلال اجتهاداتهم منذ مئات السنين، محاولةً منهم لقراءة النص وفهمه وتنزيله على واقع الناس وحياتهم العملية. وبدلاً من اتباع منهج هؤلاء في عملهم، والعودة إلى النص لمحاولة فهمه وتنزيله ليحقق، في هذا العصر، حاجات الناس ومصالحهم بما ينسجم مع القيم والمقاصد الكبرى للإسلام، أبقى الشرعيون المجتمعات عالةً على ما أنتجه الرواد الأوائل، ممن نحسبُ، باستقراء منهجهم، أنهم كانوا سيقومون، قبل غيرهم، بثورةٍ في رؤيتهم، لو أنهم كانوا ممن عاش التحولات الكبرى التي نتحدث عنها. يسري هذا التحليل على سوريا كما هو الحال في غيرها. لكن المشكلة تبدو أكبر حين ننتقل من ظروف وبيئة وأولويات ما قبل الثورة السورية إلى تلك المتعلقة بالواقع السوري خلال السنوات القليلة الماضية. ففي هذه الحالة أيضاً، لم تستطع الرؤية الشرعية أن تواكب الانقلاب الهائل الذي أصبح سِمة المجتمع السوري، في الداخل وفي المهجر. ومن البداية، كان واضحاً وجود ارتباكٍ كامل في العلاقة بين المؤسسة الشرعية التقليدية، وبين العاملين في المسارين السياسي والعسكري، إسلاميين كانوا أو غير ذلك. إذ كان العسكريون في البداية لا يعترفون للشرعيين، السوريين، بأي صفةٍ مرجعيةٍ عملياً، بغض النظر عن المجاملات. ثم إن هؤلاء، عندما تطورت العلاقة بعد ذلك، لم يستطيعوا حتى الضغط على العسكر باتجاه تحقيق هدفٍ مهمٍ ووحيد يتمثل في توحيد صفوفهم. أما بالنسبة للعاملين في المجال السياسي فقد تراوحت العلاقة بين مدٍ وجذر، من التخويف من أولئك العاملين ومن هياكلهم في البداية وصولاً إلى قبولها بعد ذلك. وقد انحصر الأمر أصلاً في علاقات بين أفراد من الطرفين، ولا يمكن القول أنه كانت هناك مؤسسات تعمل ابتداءً. قد يكون الارتباك مفهوماً في حالة اختلاف مرجعية وهوية وتطلعات الأطراف الثلاثة بشكلٍ كامل. أما في واقعٍ يُفترض أن توجد فيه دوائر مشتركة كثيرة للمرجعية والهوية والتطلعات، فإن مثل ذاك الارتباك يُعتبر ظاهرةً شاذةً وفي غاية الغرابة. ولا يمكن تفسيره إلا بحقيقة وجود ارتباك في فهم الإسلام وفي طريقة تنزيله على واقعٍ جديد في غاية التعقيد. ثمة مثالٌ مُعبر يتمثل في فكرةٍ طُرحت مبكراً تتعلق بتدريب فِرَق عمل من شباب سوريين متخصصين في الشريعة، وإرسالهم إلى مختلف الجبهات، لنشر الوعي المعتدل بالإسلام في صفوف المقاتلين وإيقاف مد الغلو والتطرف داخل سوريا، لكن الفكرة بقيت بين أفراد، وحِبراً على ورق، بعد تجربةٍ أولية بسيطة. ولو تم تنفيذ هذا المشروع فقط، بتكامل جهود الإسلاميين في المسارات الثلاثة، لربما كان الواقع السوري مختلفاً اليوم. بهذا، ورغم العرض المختصر في هذا المقال وما قبله، يتضافرُ واقع الفصائل العسكرية الإسلامية وواقع الجسم السياسي الإسلامي وواقع المؤسسة الشرعية التقليدية، وواقعُ العلاقة بين الأطراف الثلاثة، ليُبين بشكلٍ واضح حجم الأزمة التي نتحدث عنها في هذه السلسلة. waelmerza@hotmail.com

مشاركة :